عفواً: أُلـفـة الـودود أم استدراج الـ”إن إل بي”؟! أساليب الألفة (الوئام أو التناغم أو الانسجام والتجانس) كما يُسميها أهل البرمجة اللغوية العصبية تُعتبر من أهم تقنياتهم، والتي هي في الحقيقة أساليب استدراجية وفنون لخداع العقل والتمويه عليه وسرقة وخطف.
ويؤكد روّاد البرمجة أن عمل مفتاح ما يسمى بالألفة يتطلب تتبع الشخص، ومجاراته بسرعة فائقة؛ للبقاء في خارج وعيه الواعي، والتأثير عليه، وقيادته بتنفيذ رغبات ممارس هذه التقنية.
وما ذكر سابقاً هو لون من سحر وزخرفة القول واللغة، واللحن بهما على غير الحقيقة؛ للتأثير على الشخص المقابل، وإخراجه عن وعيه واستمالة قلبه وخداعه.
يقول الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: ٣٠)، وينبغي الإشارة إلى أن نصوص الكتاب والسنة شملت على أهم عناصر ومعاني الدلالة و الإفهام المشروعة وهي:
(١)علم المتكلم بما يُريد إخباره.
(٢)قدرته على الإفصاح والبيان.
(٣)صدقه وحرصه وأمانته.
وأما عكسها فالدين منها براء كالجهل والكذب والغش والتدليس وعدم أهلية المتكلم في التبليغ والإفصاح. فدين الإسلام دين ظاهر وجلي لا يعمل في الخفاء كالباطنية، ولا يظهر خلاف ما يبطن. ومن تأمل هذا الأُسلوب المُسمى بـ”الألفة” في البرمجة (و الحقيقة هو الاستدراج و السرقة) فسيجده مخالفاً لمقاصد الشريعة من توقير و صيانة و حماية العقل و النفس. فأسلوب الألفة في البرمجة يفتقد الوضوح و سلامة القصد و الصدق و الأمانة، و ذلك من خلال استدراج المُؤثر عليه بكلمات و مجاراة و من ثم قيادته من حيث لا يشعر. وهذا مناف لمقاصد الشريعة، وفيه ذريعة لشر عظيم، وفساد كبير في الإغراء والإغواء، واستدراج الآخرين في الضلال.
يقول الله -عز وجل- في محكم التنزيل مؤكداً على أن التأليف من عنده، وهو وحده مقلب لقلوب: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63). وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).
فلا ومقلب القلوب إن الألفة الحقيقية لا يتحصل عليها بالاستدراج والخداع ولحن الخطاب؛ وإنما يُتحصل عليها من عند الله العزير الجبار الغفور الودود الرحمن الرحيم، وباتباع تعاليمه وأوامره، واجتناب نواهيه.
فالألفة والوئام والمحبة والمودة تأتي باتباع شرع الله و هدي نبيه ﷺ. يقول الله تعالى مؤكداً على معان جليلة وأساليب لطيفة؛ لتحقيق الألفة الحقيقية المشروعة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159). فلين الجانب و القلب و رحابة الصدر وسلامته مدعاة لتآلف القلوب وتوادها و قبولها لبعضها. يقول ﷺ مؤكداً على هذا المعنى القويم: «حرمت النار على الهين اللين، السهل القريب) (صحيح الترغيب: 1747). ويقول أيضاً: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (المسند الصحيح: 2594). ويؤكد على جانب التواضع والتسامح الذي هما مقتضى المحبة وسر من أسرار الألفة، فيقول: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يـبغي أحد على أحد» ( السلسلة الصحيحة: 570).
وكذلك فإن الألفة الحقيقية تتحقق بتحقيق إخوة الإيمان و العقيدة و التحاب في الله، فتلك هي الألفة التي يرتضيها الله ورسوله. قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» [الحجرات: 10]. ويؤكد ﷺ هذا المعنى الذي يرتبط بالدين والإيمان بقوله: «المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (السلسلة الصحيحة: 425). وقوله: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا. وشبك أصابعه» (الجامع الصحيح: 481).
ويضرب النبي ﷺ أروع الأمثلة في جانب الأخلاق والمؤازرة والتعاطف التي تزيد من الألفة بين المسلمين بمثال الجسد الواحد، فيقول: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». (الجامع الصحيح: 6011).
ويطالب الدين المسلمين بدعم بعضهم لبعض ومراعاة حقوقهم البينية، يقول ﷺ: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». (الجامع الصحيح: 2442).
ويؤكد ﷺ على أساس التعامل الطاهر النقي بين المسلمين مع بعضهم البعض، والذي من شانه رفع مستوى الالفة بينهم، فيقول: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه». (المسند الصحيح: 2564).
ومما يزيد الألفة بين المسلمين هو جانب إحسان الظن بالبعض وعدم التجسس ولا التحاسد. يقول الرسولﷺ: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، والتقوى ههنا، التقوى ههنا، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره- (ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله». (صحيح الترغيب: 2885.).
ويُعلّمنا الدين أساليباً تزيد من الألفة والمحبة، وتبعث على الصفاء وسلامة الصدور والمودة والرحمة بين المسلمين مع بعضهم البعض، فيذكر مثلاً:
١- الإفصاح والإخبار بمحبة أخيك المسلم: «إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له، فإنه خير في الألفة، و أبقى في المودة». (السلسلة الصحيحة: 1199).
٢- السلام و المصافحة: «إن المسلم إذا صافح أخاه تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر» (صحيح الترغيب: 2721). وقوله: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت، وعلى من لم تعرف (الجامع الصحيح.6236).
٣- الدعاء في ظهر الغيب: «دعوة المسلم لأخيه، بظهر الغيب، مستجابة. عند رأسه ملك موكل. كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين. ولك بمثل». (المسند الصحيح: 2733).
٤- طلاقة الوجه والتبسم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» (صحيح الترغيب: 2685). وقوله: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك» (صحيح الأدب: 233).
٥- التهادي: «تهادوا تحابوا» (إرواء الغليل: 1601).
وما ذُكر سابقاً هو فقط شيء يسير وغيض من فيض من كنوز هذا الدين الإسلامي العظيم. وهذه هي المعاني و القيم التي ينبغي أن ينبري لها المسلمون، ويُحرصوا على ترسيخها وتطبيقها عملياً على وجه هذه البسيطة بين المسلمين. فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! فتعاليم ربنا ورسولنا واضحة كالشمس في رابعة النهار. فلماذا نغرس في أبناء الإسلام أساليباً ومؤثرات لا تنفعهم في دينهم مع أن الشرع أتى بالكمال في كل شيء؟!
فالمطلوب إذن هو الألفة والمحبة في الله -عز وجل-، لا استدراج الآخرين ولو كان لأهداف إيجابية، والغاية لا تبرر الوسيلة. والإسلام يشترط ألا تكون فقط النية سليمة صالحة، ولكن ينبغي أن يتبعها ويرتبط بها عمل شرعي صالح صائب. فالإسلام لا يقبل الوصول إلى الغايات الطيبة بوسائل غير شرعية فاسدة. فكما أخبر النبي ﷺ إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فقد أجمع أهل العلم والسلف الصالح على أن العمل المقبول شرعاً يجب فيه اجتماع الإخلاص والصواب. فإخلاص العمل يتأتى بكونه لله -عز وجل- خالصاً لوجه الكريم، والصواب بكونه على هدي النبي ﷺ وأتباعه.
الكاتب: د. عوض بن عودة آل عودة
|