الكاتبة: منيرة بنت عبدالله القحطاني – ١٤٣٩هـ
في أحد الأيام جاءني صغيري لأراجع له ما أخذه في مادة الحديث، وعندما أخذت الكتاب فإذا به مفتوح على صفحة حديث: [احفظ الله يحفظك]، وبدأت أراجع لابني أهم ما ورد في شرح الحديث، عندها قال لي ابني: إن الأستاذ يقول لنا: “لو ما حفظتم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث لكفاكم!” لماذا يا أمي؟ ما الأهمية البالغة في هذا الحديث؟…
فتفكرت فعلاً في كلام هذا الأستاذ المبارك جزاه الله خيراً، وتذكرت أثر هذا الحديث عليَّ حينما تلقيته لأول مرة في المرحلة الابتدائية، وتذكرت محاضرة لأحد المشايخ سمعتها وأنا في المرحلة المتوسطة بعنوان هذا الحديث العظيم “احفظ الله يحفظك” وكيف كان لها أكبر الأثر علينا في سلوكياتنا وتعاملاتنا المختلفة، حينها تذكرت عبارة أحدهم حينما قال “ياله من دين لو كان له رجال” فقلت: ياله من حديث لو أن لنا معه وقفات، نعم …. ياله من حديث، فأسرار الحديث ترسم لنا منهج حياة على مراد الله تعالى ومراد رسوله ﷺ .
فأخذت أسبر أغوار هذا الحديث …
“عَنْ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كنت خلف النَّبيّ ﷺ يوماً، فَقَالَ: [يَا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احفظ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ، وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ] أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
إن هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها، وقد تحدث علماء الأمة المتقدمين والمتأخرين عن عظم منزلة هذا الحديث…
فقال الإمام النووي رحمه الله: “هذا حديث عظيم الموقع”.
و قال ابن رجب رحمه الله: “وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها، حتى قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث، فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه”.
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: “هذا الحديث القدر، طريقته حديث عظيم الموقع، وأصل كبير في رعاية حقوق الله، والتفويض لأمره، والتوكل عليه”. واشتمل هذا الحديث على “هذه الوصايا الخطيرة القدر ، الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر “.
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى : “فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائما وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة التي أوصى بها النبي ﷺ ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما”.
وغيرها الكثير والكثير مما لا يتسع المقام لحصرها، وحينما قلبت فكري في حال بعضنا هذه الأيام وفي حين غفلة عن مثل هذه الأصول العظيمة في الشرع المطهر وجدت تخبطاً عجيبا في الممارسات السلوكية والتي يبحث أصحابها عن الاستقرار النفسي والطمأنينة والراحة ومواجهة الإحباطات والإخفاقات التي يمرون بها.
فنجد البعض منهم يمارس ما يسمى “التوكيدات الإيجابية”، يردد بينه وبين نفسه عبارات يعتقد أن لها تأثيراً على نفسه! وهذه التوكيدات في حقيقتها إحدى أساليب الباطنية الجذابة التي مهمتها التفكيك أو التشكيك أو التمييع للقيم العقدية والأخلاقية ..
لأنها تتسرب لتحل مع الأيام (بالمزاحمة) محل الدعاء! ولتأخذ بممارسيها خطوة خطوة (بخفاء) نحو تأليه الذات وتأليه الكون؛ وبذلك يتحقق لحركة العصر الجديد أهدافها والتي أخذت في تصميم قوالب مختلفة تصلح لكل الناس وتدخل في اليوميات الحياتية.
فحركة العصر الجديد حركة باطنية لا تحارب ديناً بعينه، ولا تتصدى للإسلام خاصة، وإنما تحارب جميع العقائد. ومن ثم اختلف منهجها قليلاً ومذهب رفت به الباطنية في التاريخ الإسلامي فلم تلبس ثوب الإسلام والدين في بدايتها كما هو شأن الحركات الباطنية في تاريخ الأمة، وإنما أخذت طابع الثقافة المحايدة والفكر الجديد. وروج لها باسم التنمية البشرية وسوقت برامجها عبر مؤسسات التدريب والتطبيب كبرامج حيوية عامة لا تقدم فكراً أو فلسفة ولا تتعلق بدين أو مذهب. كما تمت صياغة برامجها وأبياتها بطريقة تُخفي حقيقة أصولها الفلسفية الغنوصية وتقدمها لعامة الناس كأساليب حياة معاصرة توصل من يمارسها بشكل دائم إلى الصحة والسعادة التي هي غاية ما ينشده أكثر الناس.
فالتوكيدات الإيجابية فكرة باطنية، خبيثة الحقيقة، جميلة الظاهر، لتحل مع الأيام محل الدعاء الذي هو العبادة!
والحركات العالمية الباطنية اليوم لا تهتم بما يوجد أو يتبقى في أذهان الناس من معتقداتهم وإنما تهتم فقط بما يضاف إلى مقاومة سلوكهم إيمانا بأن الزمن وقوة الإيحاء بفاعلية الوصفات الجديدة كفيلان بإزاحة القديم وتثبيت الجديد دون مقاومة..
إنه منهج الباطنية منهج المزاحمة لا المواجهة.
وقد أتانا نبينا صلى الله عليه وسلم بالبيضاء ليلها كنهارها فلنأخذ ديننا بقوة ولنفرح بفضل الله ورحمته.
لأن هذه التوكيدات هي استبدال للمنهج الصحيح في تزكية النفس وطلب المراد، فإن كانت من أجل التحفيز وتنشيط النفس فلدينا في أعمال اليوم والليلة والأدعية المأثورة والآداب النبوية والتي منها حديث [احفظ الله يحفظك] ما يكفل بتحويل سلبك إيجاباً وتجعل إيجابك وثاباً.
وإن كانت هذه العبارات التوكيدية بهدف الجذب، فيظن الفرد أن الكون يتفاعل مع هذه العبارات ويحقق له ما يريد، فهذا غاية الضلال وهو قول القدرية الذي يتعارض جملة وتفصيلا مع عبارات حديث [احفظ الله يحفظك] والتي سنتطرق لبعض آثارها الوعظية التربوية العقدية.
في بداية هذا الحديث العظيم قال المربي ﷺ الأول لابن عباس رضى الله عنهما [يا غلام] ليسترعي انتباهه وجه إليه هذا النداء بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم [إني أعلمك كلمات] ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات ليكن لها وقع في نفسه، وجاء بصيغة القلة ليؤذنه أنها قليلة اللفظ، فيسهل حفظها.
ويدل هذا الجزء من الحديث على ضرورة ربط الناشئة بالله عز وجل في سن مبكرة، واستحباب تشويق المتعلم وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية مايلقى إليه وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه.
[احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك] أي احفظ الله بحفظ حدوده وحقوقه وشريعته بالقيام بأوامره واجتناب نواهيه، وفي هذه العبارة تعليق بالله عز وجل وحده، وتعليق الناشئة بالله عز وجل أصل من أصول التربية الإسلامية، ينبغي الحرص عليه من قِبَل المربي.
فمن يحافظ على ما أمره الله به من صلاة وصيام وزكاة وغيرها، ويجتنب ما نهاه الله عنه من محرمات ومكروهات لا ترضي الله عز وجل، يجده أمامه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)
تدبرت في هذا الخبر النبوي فتذكرت قول ذلك الشاعر الحكيم وهو يضع النصيحة موضعها فيقول:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب. [وإذا استعنت فاستعن بالله] تضمنت هذه العبارة أنه يجب على العبد أن يسأل الله وحده ولا يسأل غيره وأن يستعين به وحده ولا يستعين بغيره، لأن السؤال فيه إظهار الذل والمسكنة والحاجة والافتقار من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع الضر ونيل المطلوب وجلب النفع دفع المكروه، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
فعلى المربي أن يغرس في نفوس النشء التوكل على الله والاستعانة به في جميع الأمور، ويحذرهم من ترديد التوكيدات (أنا قوي، أنا قادر) لأن هذه العبارات فيها استغناء (قد يكون تدريجياً) عن سؤال الله ﷺ. فمن حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير ويذود عنه كل شر ولا سيما بالاستعانة به والتوكل عليه، فمن توكل على الله كفاه ومن كان الله حسبه فإنه لا يحتاج إلى أحد بعده ولن يناله سوء .
وهنا نتذكر قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) هذه الآية العظيمة التي نتلوها في كل ركعة من ركعات صلاتنا أي نرددها في أقل الأحول 17 مرة في اليوم والليلة ومعناها: أي نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة أي نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا.
[ واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك] في هذه العبارة تحقيق للركن السادس من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره، وتسليم بما قضاه الله تعالى على الفرد حتى وإن اجتهد الخلق كلهم جميعا. وفي ذلك سكينة واطمئنان للعبد إذ لا يبالي بما يدبره الخلق أو يهددونه به، لأنه يعلم أن الخير والشر بتقدير الله تعالى وأن النفع والضر بإرادته وحكمته سبحانه.
أما ترديد “أنا أستحق”! ومثيلاتها من «التوكيدات» التي بات يرددها كثير من أولئك الذين تدرجوا في متاهات «قانون الجذب» أو جذب القدر، حتى صار أحدهم يعتقد بأنه صانع الأقدار، وأنه إذا صرح باستحقاقه الشيء انجذب إليه وتحقق له، ولو أن الإنسان عرف قدر نفسه، وتأمل تقصيره وذنبه، وما يسبغه الله عليه من النعم، لعلم أن ذلك محض كرمه Y وفضله، لا من حق العبد على ربه.
[رفعت الأقلام وجفت الصحف] هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن تقدم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفت من المداد فما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك.
فيما سبق بعض الوقفات اليسيرة في شرح حديث “احفظ الله يحفظك” والتي رسمت لنا خطوطا عريضة لحياة مطمئنة ترتكز على الإيمان بالله تعالى والتعلق به وحده والاستعانة به في كل الأحوال والتسليم لقضائه وقدره. ولتكن هذه الكلمات “لحظة توقف” ودعوة لـ”تجديد النية” واستحضار معاني الحياة في كل حركة وسكنة، إن “لحظة التوقف” منهج متبع عند سلف الأمة، فهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: “رحم الله أمرئ وقف عند همه فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف “
فعلينا أن نراجع نياتنا وأعمالنا ونتذكر قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ولنتذكر قول أهل العلم إن قاعدة الكمال في هذا الدين مطردة في كل جوانب الحياة .
وعندما تشتد المحن وتدلهم الفتن وتختلط الأمور ويشتبه الحق بالباطل ، عندها تشتد الحاجة للوقوف لطلب العون من الله ولاستبصار حقائق الأمور وتبيين طريق الحق واللسان يلهج داعياً لقلب مخبت متضرع : ” اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.
في أحد الأيام جاءني صغيري لأراجع له ما أخذه في مادة الحديث، وعندما أخذت الكتاب فإذا به مفتوح على صفحة حديث: [احفظ الله يحفظك]، وبدأت أراجع لابني أهم ما ورد في شرح الحديث، عندها قال لي ابني: إن الأستاذ يقول لنا: “لو ما حفظتم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث لكفاكم!” لماذا يا أمي؟ ما الأهمية البالغة في هذا الحديث؟…
فتفكرت فعلاً في كلام هذا الأستاذ المبارك جزاه الله خيراً، وتذكرت أثر هذا الحديث عليَّ حينما تلقيته لأول مرة في المرحلة الابتدائية، وتذكرت محاضرة لأحد المشايخ سمعتها وأنا في المرحلة المتوسطة بعنوان هذا الحديث العظيم “احفظ الله يحفظك” وكيف كان لها أكبر الأثر علينا في سلوكياتنا وتعاملاتنا المختلفة، حينها تذكرت عبارة أحدهم حينما قال “ياله من دين لو كان له رجال” فقلت: ياله من حديث لو أن لنا معه وقفات، نعم …. ياله من حديث، فأسرار الحديث ترسم لنا منهج حياة على مراد الله تعالى ومراد رسوله ﷺ .
فأخذت أسبر أغوار هذا الحديث …
“عَنْ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كنت خلف النَّبيّ rيوماً، فَقَالَ: [يَا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احفظ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ، وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ] أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
إن هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها، وقد تحدث علماء الأمة المتقدمين والمتأخرين عن عظم منزلة هذا الحديث…
فقال الإمام النووي رحمه الله: “هذا حديث عظيم الموقع”.
و قال ابن رجب رحمه الله: “وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها، حتى قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث، فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه”.
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: “هذا الحديث القدر، طريقته حديث عظيم الموقع، وأصل كبير في رعاية حقوق الله، والتفويض لأمره، والتوكل عليه”. واشتمل هذا الحديث على “هذه الوصايا الخطيرة القدر ، الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر “.
وقال ابن عثيمين رحمه الله تعالى : “فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائما وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة التي أوصى بها النبي ﷺ ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما”.
وغيرها الكثير والكثير مما لا يتسع المقام لحصرها، وحينما قلبت فكري في حال بعضنا هذه الأيام وفي حين غفلة عن مثل هذه الأصول العظيمة في الشرع المطهر وجدت تخبطاً عجيبا في الممارسات السلوكية والتي يبحث أصحابها عن الاستقرار النفسي والطمأنينة والراحة ومواجهة الإحباطات والإخفاقات التي يمرون بها.
فنجد البعض منهم يمارس ما يسمى “التوكيدات الإيجابية”، يردد بينه وبين نفسه عبارات يعتقد أن لها تأثيراً على نفسه! وهذه التوكيدات في حقيقتها إحدى أساليب الباطنية الجذابة التي مهمتها التفكيك أو التشكيك أو التمييع للقيم العقدية والأخلاقية ..
لأنها تتسرب لتحل مع الأيام (بالمزاحمة) محل الدعاء! ولتأخذ بممارسيها خطوة خطوة (بخفاء) نحو تأليه الذات وتأليه الكون؛ وبذلك يتحقق لحركة العصر الجديد أهدافها والتي أخذت في تصميم قوالب مختلفة تصلح لكل الناس وتدخل في اليوميات الحياتية.
فحركة العصر الجديد حركة باطنية لا تحارب ديناً بعينه، ولا تتصدى للإسلام خاصة، وإنما تحارب جميع العقائد. ومن ثم اختلف منهجها قليلاً ومذهب رفت به الباطنية في التاريخ الإسلامي فلم تلبس ثوب الإسلام والدين في بدايتها كما هو شأن الحركات الباطنية في تاريخ الأمة، وإنما أخذت طابع الثقافة المحايدة والفكر الجديد. وروج لها باسم التنمية البشرية وسوقت برامجها عبر مؤسسات التدريب والتطبيب كبرامج حيوية عامة لا تقدم فكراً أو فلسفة ولا تتعلق بدين أو مذهب. كما تمت صياغة برامجها وأبياتها بطريقة تُخفي حقيقة أصولها الفلسفية الغنوصية وتقدمها لعامة الناس كأساليب حياة معاصرة توصل من يمارسها بشكل دائم إلى الصحة والسعادة التي هي غاية ما ينشده أكثر الناس(١).
فالتوكيدات الإيجابية فكرة باطنية، خبيثة الحقيقة، جميلة الظاهر، لتحل مع الأيام محل الدعاء الذي هو العبادة!
والحركات العالمية الباطنية اليوم لا تهتم بما يوجد أو يتبقى في أذهان الناس من معتقداتهم وإنما تهتم فقط بما يضاف إلى مقاومة سلوكهم إيمانا بأن الزمن وقوة الإيحاء بفاعلية الوصفات الجديدة كفيلان بإزاحة القديم وتثبيت الجديد دون مقاومة..
إنه منهج الباطنية منهج المزاحمة لا المواجهة.
وقد أتانا نبينا صلى الله عليه وسلم بالبيضاء ليلها كنهارها فلنأخذ ديننا بقوة ولنفرح بفضل الله ورحمته.
لأن هذه التوكيدات هي استبدال للمنهج الصحيح في تزكية النفس وطلب المراد، فإن كانت من أجل التحفيز وتنشيط النفس فلدينا في أعمال اليوم والليلة والأدعية المأثورة والآداب النبوية والتي منها حديث [احفظ الله يحفظك] ما يكفل بتحويل سلبك إيجاباً وتجعل إيجابك وثاباً(٢).
وإن كانت هذه العبارات التوكيدية بهدف الجذب، فيظن الفرد أن الكون يتفاعل مع هذه العبارات ويحقق له ما يريد، فهذا غاية الضلال وهو قول القدرية الذي يتعارض جملة وتفصيلا مع عبارات حديث [احفظ الله يحفظك] والتي سنتطرق لبعض آثارها الوعظية التربوية العقدية.
في بداية هذا الحديث العظيم قال المربي r الأول لابن عباس رضي الله عنهما [يا غلام] ليسترعي انتباهه وجه إليه هذا النداء بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم [إني أعلمك كلمات] ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات ليكن لها وقع في نفسه، وجاء بصيغة القلة ليؤذنه أنها قليلة اللفظ، فيسهل حفظها.
و يدل هذا الجزء من الحديث على ضرورة ربط الناشئة بالله عز وجل في سن مبكرة، واستحباب تشويق المتعلم وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية مايلقى إليه وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه.
[احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك] أي احفظ الله بحفظ حدوده وحقوقه وشريعته بالقيام بأوامره واجتناب نواهيه، وفي هذه العبارة تعليق بالله عز وجل وحده، وتعليق الناشئة بالله عز وجل أصل من أصول التربية الإسلامية، ينبغي الحرص عليه من قِبَل المربي.
فمن يحافظ على ما أمره الله به من صلاة وصيام وزكاة وغيرها، ويجتنب ما نهاه الله عنه من محرمات ومكروهات لا ترضي الله عز وجل، يجده أمامه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)
تدبرت في هذا الخبر النبوي فتذكرت قول ذلك الشاعر الحكيم وهو يضع النصيحة موضعها فيقول: لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب. [وإذا استعنت فاستعن بالله] تضمنت هذه العبارة أنه يجب على العبد أن يسأل الله وحده ولا يسأل غيره وأن يستعين به وحده ولا يستعين بغيره، لأن السؤال فيه إظهار الذل والمسكنة والحاجة والافتقار من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع الضر ونيل المطلوب وجلب النفع دفع المكروه، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
فعلى المربي أن يغرس في نفوس النشء التوكل على الله والاستعانة به في جميع الأمور، ويحذرهم من ترديد التوكيدات (أنا قوي، أنا قادر) لأن هذه العبارات فيها استغناء (قد يكون تدريجياً) عن سؤال الله ﷺ . فمن حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير ويذود عنه كل شر ولا سيما بالاستعانة به والتوكل عليه، فمن توكل على الله كفاه ومن كان الله حسبه فإنه لا يحتاج إلى أحد بعده ولن يناله سوء .
وهنا نتذكر قوله تعالى : (إياك نعبد وإياك نستعين) هذه الآية العظيمة التي نتلوها في كل ركعة من ركعات صلاتنا أي نرددها في أقل الأحول 17 مرة في اليوم والليلة ومعناها: أي نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة أي نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا.
[ واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك] في هذه العبارة تحقيق للركن السادس من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره، وتسليم بما قضاه الله تعالى على الفرد حتى وإن اجتهد الخلق كلهم جميعا. وفي ذلك سكينة واطمئنان للعبد إذ لا يبالي بما يدبره الخلق أو يهددونه به، لأنه يعلم أن الخير والشر بتقدير الله تعالى وأن النفع والضر بإرادته وحكمته سبحانه.
أما ترديد “أنا أستحق”! ومثيلاتها من «التوكيدات» التي بات يرددها كثير من أولئك الذين تدرجوا في متاهات «قانون الجذب» أو جذب القدر، حتى صار أحدهم يعتقد بأنه صانع الأقدار، وأنه إذا صرح باستحقاقه الشيء انجذب إليه وتحقق له، ولو أن الإنسان عرف قدر نفسه، وتأمل تقصيره وذنبه، وما يسبغه الله عليه من النعم، لعلم أن ذلك محض كرمه تعالى وفضله، لا من حق العبد على ربه.
[رفعت الأقلام وجفت الصحف] هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن تقدم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفت من المداد فما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك.
فيما سبق بعض الوقفات اليسيرة في شرح حديث “احفظ الله يحفظك” والتي رسمت لنا خطوطا عريضة لحياة مطمئنة ترتكز على الإيمان بالله تعالى والتعلق به وحده والاستعانة به في كل الأحوال والتسليم لقضائه وقدره. ولتكن هذه الكلمات “لحظة توقف” ودعوة لـ”تجديد النية” واستحضار معاني الحياة في كل حركة وسكنة، إن “لحظة التوقف” منهج متبع عند سلف الأمة، فهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: “رحم الله أمرئ وقف عند همه فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف “
فعلينا أن نراجع نياتنا وأعمالنا ونتذكر قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
ولنتذكر قول أهل العلم إن قاعدة الكمال في هذا الدين مطردة في كل جوانب الحياة .
وعندما تشتد المحن وتدلهم الفتن وتختلط الأمور ويشتبه الحق بالباطل ، عندها تشتد الحاجة للوقوف لطلب العون من الله ولاستبصار حقائق الأمور وتبيين طريق الحق واللسان يلهج داعياً لقلب مخبت متضرع : ” اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) د. فوز كردي بتصرف.
(٢) المرجع السابق.
المراجع:
- -كتاب الأذكار للنووي (51).
-جامع العلوم والحكم (1/ 361) نور الاقتباس (40) .
-فتح المبين لشرح الأربعين ص: (155) – (171 – 172) – (177)
-شرح رياض الصالحين (456).
-دراسة عقدية لحديث احفظ الله يحفظك، محمد العلي، (19).
– دراسة عقدية لحديث احفظ الله يحفظك، محمد العلي (66) – (79، 80)
-وقفات مع الفكر العقدي الوافد، د. فوز كردي.