الكاتبة: هناء بنت حمد النفجان ١٤٤٠ هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
لا يخفى أن أهل الإسلام يواجهون موجة إلحادية معاصرة ظاهرة في الميدان، ولكن الذي قد يخفى هو بعض صور الإلحاد المتعددة وأبرزها نوعان من الإلحاد: إلحاد مادي مبني على إنكار ما سوى المادة المحسوسة ويمتاز بالتصريح بإنكار وجود الخالق جل وعلا أو عدمية الفكرة وعبثية الحياة، ونوع أخطر منه مبني على إثبات لما وراء المادة في مظهر المؤمن بالغيب في الأوساط المتدينة، يمتاز بالحديث عن الروحانيات المجردة، وهو ما يمكن أن أسميه بالإلحاد الروحاني الحديث.
وقد يتبادر للذهن للوهلة الأولى أن هذا النوع من الإلحاد أهون من الأول، وأقرب والطريق إلى تصحيح مساره أقصر، لما يتظاهر به من الإيمان بقوة خفية وراء المادة. والحق أنه أعمق وأشد من الأول لأمور:
أن ما يدعيه من الغيب ليس إلا خرافات لا دليل عليها، تسول للمرء فعل ما يريد والحكم بما يريد بحجة هذا المتكأ الغيبي الذي لا سبيل لإثباته من علم ولاخبر.
أنه متلون وباطني، فما يظهر منه ليس هو كامل حقيقته، لذا فلا يعتمد على ظاهر طرحه ولا على ما يتسلق عليه من الحقائق لأنه يسعى لنقضها في حينه.
أنه لا يستند لمنطلقات حسية أو عقلية صحيحة ومشتركة بين الناس، بل يقوم على نقض المبادئ الصحيحة لتلقي المعرفة ولا يقيم لها اعتباراً أمام المرجع القاطع لديه و هو الحدس والمعرفة الداخلية والتجربة الذاتية، فيقدس هوى النفس ويضخم الخواطر ويلبسها ثوب المصدر النقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى لا يبقى إلا الهوى المتغير فيفتح الباب على الفوضى المعرفية المستحكمة ويعجب كل ذي رأي برأيه مهما سخف، وتتجارى بالناس أهوائهم ظناً منهم أنهم يحتكمون إلى مصدر صحيح ، فلا هم آمنوا بغيب صحيح ثابت، ولا اتفقوا على محسوس واقعي، ولا احتكموا إلى مسكة عقل {أرأيت من اتخذ إلهه هواه } الفرقان43
فهل أشد ضلالاً وبعداً من هذه النتيجة التي لا يرتضيها أي إنسان يريد الحق والنجاة؟
مع أن الإلحادين المادي والروحاني في السنوات الأخيرة بدأت تلتقي أهدافهما للناظر وتتفق مصالحهما بل وتتشابه كثير من عباراتهما وأصولهما: كمبدأ الحرية المطلقة ونسبية الحقيقة، ونسبية القيم ونظرية التطور وبدء الخلق. ولسنا بحاجة لاستفراغ الوسع في إثبات هذا الالتقاء فقد صرح أحدهم واسمه (إليان دي بوتون) لضرورة الترقية لنسخة الإلحاد الأولى وسماها النسخة (2.0) للإلحاد، حيث وجد في الإلحاد الروحاني متنفساً ونوعاً من الإشباع الخرافي، وطريقاً للتملق يفسح للملاحدة اختراق المجتمع بلا مدافعة.
ومن مظاهر الاشتراك بينهما الاتفاق على نظرية التطور(١)، بل إن نظرية التطور عند الروحانية الحديثة تضاهي نظرية التطور عند الداروينية ، فهي عند الداروينية مقتصرة –رغم شناعتها- على إنكار الخالق وإمكان تطور المخلوقات من جنس لآخر في نطاق المخلوقين و مبدؤها الإيمان بالصدفة.
بينما يعتبر ما سبق لدى الروحانيين بداية ساذجة لتطور أعمق! وهو التطور من مخلوق إلى خالق -نعوذ بالله من الضلال-، وهذا إلحاد صارخ تجاوز حدود المعقول والمناقشة الممكنة.
فهو لا يقتصر على إنكار وجود خالق مع الإيمان بأن الكائنات مخلوقة، ولكنه انتقل لمرحلة إنكار صفات المخلوق المحدودة و ادعاء إمكانية خلع صفات الخالق عليه، فهذا الفيلسوف الأمريكي رالف إميرسون يقرر وجود الفكر أو الوعي قبل الوجود المادي حيث يقول :” إن القوى المعجزة الفاعلة لعقلك الباطن موجودة قبل مولدك ومولدي” وبهذا يكون الفكر هو الخالق المبدع وبتطوره وجد المخلوق وبتطور هذا المخلوق يعود مرة أخرى إلى أصله الإلهي، وهذا ما تتثنى به تقريرات وممارسات الروحانيين، ففي مذكرات رامثا التي ينقلها (جي زي نايت) الكثير من ذلك.
إذ يعتقدون أن الإنسان بمواصلة التأمل (meditation) يتطور في مستويات هذا الوعي –أصل الوجود لديهم-حتى يصبح له من قدرات الخلق والشفاء ما ليس لغيره
فمعتنقي هذا الفكر يجمعون بين التطور الجسدي الدارويني وبين آخر يسمونه التطور الروحي، فهم لا ينكرون فكرة التطور ولكنهم يعتبرونها ناقصة وبداية للتطور الروحي أو على نطاق الوعي.
ويتذرع الروحانيون لإثبات معتقداتهم بتسطيح نظريات العلم التجريبي المعقدة المثبت منها وغير المثبت، (كالعوالم المتوازية ونظرية النسبية، والزمكان، وتأثير المراقب والسنجلرتي والانفجار الكبير، وفيزياء الكم….. وغيرها) وتوظف توظيفا مخادعاً، يبدو في ظاهره غير مصادم لشيء من الدين، كل ذلك لتوطين الإلحاد وإنكار خالق مباين لخلقه خارج النفس المخلوقة. ولا يتورعون عن التجديف بعبارات التأكيد لما ليس بمؤكد وإثبات ما هو في أقل درجات الظنية بترديد عدد من العبارات الموهمة ك (ثبت -ومعترف به – تأكد – ويؤيده العلم – وطبقاً للأبحاث…) ونحوها من الألفاظ المخدرة للقارئ.
ففي مقال لراندا الحمامصي تدمج فيه بوضوح بين الإلحاد المادي وفكر الإلحاد الروحاني في مسألة التطور ونسبية القيم ويتضح كيف تتكئ على النظريات جزافاً بقولها:
“طبقاً لما وجدَتْه أبحاث علم الإنسان المعترف بها فإن تشريح تطور(٢) الطبيعة البشرية لم يتمّ فعلياً إلا قبل خمسين ألف سنة تقريباً، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن بقي جسم الإنسان ومخّه بنفس الحجم والهيكل. ومن ناحية أخرى فإن ظروف الحياة قد تغيّرت بالكلية في هذه الفترة ولا يزال التغيير حاصلاً وبخطوات سريعة. وفي سبيل التكيّف مع هذه المتغيّرات أصبح لزاماً على الجنس البشري أن يستغلّ قدراته في الوعي والفكر التصوّري “واللغة الرمزية” حتى ينتقل من حالة التطور الجنيني “Genetic Evolution” إلى التطور الاجتماعي الذي أخذ طريقه إلى التسارع ليأخذ أشكالاً مختلفة…
فهاتان المرحلتان من تطوّر الجنس البشري – المرحلة البيولوجية (الحيوية)، والمرحلة السيكولوجية (النفسية) إنما تتبعهما مرحلة ثالثة في مسيرة الإنسان التطورية، وتلك هي التطور الروحاني…” ثم تسهب في تفسيرات غير مدللة لما تزعم حتى تصل إلى نتيجة مسبقة بقولها: “إننا الآن نتقدم نحو مستوى جديد من التطور الجماعي، وفيه يحدث التكامل
والتوازن بين غرائزنا وانفعالاتنا وأفكارنا في عملية واحدة موحّدة. ويكون هذا في حيّز الإمكان متى أتقنّا توسيع مداركنا وعقولنا حتى يصبح بمقدورها الاتصال بالفكر العالمي، وتلك هي عملية روحانية بحتة” وتختم مقالها بقولها: “عندما يسمح الإنسان للروح عن طريق العقل أن تنير إدراكه، حينذٍ يحيط بكل المخلوقات…..”! والمحيط بكل المخلوقات هو الله وحده سبحانه وتعالى عما يزعمون.
ويظهر من التبطين في الكلام الإشارة لعقيدة وحدة الوجود الإلحادية القديمة والتي تزعم أن لا خالق ولا مخلوق بل هما شيء واحد، نسأل الله السلامة من هذه المعتقدات الإبليسية.
وقد جاء بشكل أوضح في أحد المقالات المؤيدة لهذا التيار ما نصه:
“حالات الوعي الأسمى:
لقد أظهرت الدراسات العلمية(٣) أن الحالة الرابعة للوعي هي حالة غير محدودة للطاقة وفيها كل صفات “المطلق”، وصفات الحقل الموحد كما تشرح عنها علوم الفيزياء الحديثة المعروفة بفيزياء الكم، إن اختبار حالة الوعي الرابعة تسمح للإنسان باكتساب صفات “المطلق” بشكل تدريجي..
لقد أدرك هذا الإنسان “المتطور” أن الله في داخله..، وفي هذه الحالة من الوعي الذي فيها يكون كل شيء هو الله ويعمل بمشيئة الله ومن أجل الله، يصل الإنسان إلى حالة التوحيد، حالة الأحادية. في هذه الحالة ينقطع العقل عن التأثر بمجريات الأفعال، وتخلص النفس من الانطباعات وتحرر الروح من قيد النفس. هكذا يصل الإنسان إلى نهاية المطاف، ويتوقف كل سعي من أجل “التطور”..، ويصبح الوجود المادي للفرد مجرد إرادة (يمددها كما يشاء وينهيها كما يشاء)(٤) “.
ويلاحظ هنا التجديف باستخدام عبارات مخدرة كـ(أظهرت الدراسات العلمية) ولا وجود لهذه الدراسات، وإقحام لمصطلحات علمية لغير معانيها المقصودة بها، كـ(الحقل الموحد، وفيزياء الكم) توهم القارئ بجدية النتائج وعلمية المقال وهو مجرد استقواء بنظريات شائكة على النطاق العلمي للاستدلال بها على نتائج مسبقة ومعتقدات روحانية.
كما يتضح الإبطان للمعتقدات خلف مصطلحات مشكلة كـ”المطلق” و “حالة التوحيد- والأحادية” والتسلق على الحقائق الثابتة كـ”مشيئة الله” للإيهام بمقاصد صحيحة، مع ملاحظة نقضها في ذات السياق -كما أسلفنا-
وذلك بإعادة المشيئة المطلقة والتدبير للعبد في نهاية النقل. كل ذلك محاولة لإثبات عقيدة وحدة الوجود ونفي خالق مباين له التدبير والخلق والأمر سبحانه.
وقد يظن البعض أنه إيمان بالله عليه بعض الضباب الذي يسهل قشعه وأنه أهون من إثبات وجود خالق منفي أصلاً.
ولكن الحقيقة أنه إيمان بأن المخلوق هو عين الإله ولا وجود لله تعالى إلا داخل هذا المخلوق، وأنه هو موجد نفسه ومدبر أقداره وخالقها، وهذا إنكار للخالق تماماً خارج النفس المخلوقة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والواقع أن إثبات الحق ابتداءً لمنكره بالكلية، قد يكون أيسر من قشع خرافة متجذرة واستبدالها بفكرة صحيحة، وفي هذا السياق تأتي الآية الكريمة لتناقش كلا الإلحادين {أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون}؟ ففي الشق الأول منها استفهام إنكاري أن يكون الإنسان خلق صدفة من غير خالق، وفي الاستفهام الثاني إنكار أن يكون الخالق هو عين المخلوق.
وهكذا نجد كلا التيارين يلتقيان في أصل كبير وهو الإلحاد في الربوبية، فالفكر الباطني فكر ملحد ينكر فكرة (الإله) المنفصل خارج النفس ولكنه يسلك في ذلك الإنكار سبيلاً روحانياً ملبساً يجعل من النفس إلهاً متصرفاً في الواقع، خالقاً لقدره ومستغنياً عن أي دين أو قوة خارج النفس.
كما أنه تيار ينكر الألوهية بالبداهة فمن يخلع أفعال وصفات الربوبية على المخلوق هل له حاجة أن يعبد غير نفسه وهواه؟
ولصعوبة هذا المركب الوعر على من تأثر بهذا التيار من المسلمين فإنهم هربوا إلى تأويل العبادات وإنكار الصلوات بما يتفق مع هذه الفلسفة الإلحادية.
وليس هذا آخر المطاف فإن هذا التيار الروحاني ينكر النبوة والأديان ويتمرد على الأخلاق والقيم فأي فرق بينه وبين الإلحاد المادي إلا السبيل والمظهر الخارجي.
كما تلتقي مبادئ الإلحاد الروحاني بالإلحاد المادي في أحادية طرق المعرفة، فكما أن الإلحاد المادي يقتصر على الحس في إثبات المعرفة، فالإلحاد الروحاني غنوصي، يقصر طريق المعرفة على الحدس والصوت الداخلي للنفس، فالمرجعية لديه داخلية، وهذا ضلال أكبر فالحس لا ينٌكر أنه أحد طرق المعرفة المنضبطة لكنه ليس الوحيد لها، أما الحدس فليس طريقاً منضبطاً للمعرفة بل هو طريق للفوضى المعرفية.
ويضاف لذلك أنه يطرح تحت ستار الأدلة الشرعية والأدلة العلمية، وبهذا يشرّع له، ولا يبدو منكراً أو مهاجماً بل يبدو كصديق مدافع ضد الإلحاد المادي!
ومن هنا يتبين خطورة الإلحاد الباطني المعقد، مقارنة بالإلحاد المادي المباشر.
وللأسف فإنه يوجد في المملكة والخليج العربي من يروج صراحة لهذا الفكر الإلحادي في القالب الروحاني ولهم أتباع وبرامج في المحيط السني وأحياناً بمظاهر سلفية!
وكثير من المتأثرين به تجد لديهم فوضى معرفية وأخلاقية عجيبة وتضخيم للنفس وتمرد، مع ضعف شديد واضطراب ظاهر، نسأل الله لنا ولهم السلامة من هذا الضلال والفيئة لهدي الكتاب والسنة.
ومع ذلك فإن الردود والمؤلفات على الإلحاد المادي تملأ الساحة، بينما النوع الثاني لا زال من الأخيار والباحثين من يظن الحديث فيه مبالغة، أو قد يظنه أحد الحلول الصحيحة لدفع الأول!، وذلك لدخوله من باب الفلسفة والتصوف.
وقد آن الأوان لمن شحذ قلمه في الرد على الفلسفة الإلحادية أن يسيله على سائر أنواع الإلحاد لئلا يمحو جهده السابق؛ سيل الروحانيات الحديثة الذي يستحسنه اليوم كثير من أتباع الإلحاد المادي ويجدون فيه البديل المناسب عن التدين والإسلام، نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١)ولا شك أني لا أقصد نظرية التطور الصغرى المقبولة في عالم الأحياء.
(٢)ولا أدري كيف يشرح التطور؟!
(٣)وهذه إحدى العبارات المخدرة كما أسلفنا
(٤) تحتفظ الكاتبة بالمرجع.