“حلمنتيشيات”

المشاهدات : 803

ظاهرة غريبة تنتشر عندنا في الكويت وربما في كل بلاد العربان، فما أن يقوم أي شخص بتنفيذ فكرة ما، حتى يتكاثر المقلدون له مثل تكاثر النمل على قطعة الحلوى! خذوا عندكم، يقوم شخص بافتتاح محل لبيع برامج الكمبيوتر، وفي غضون عام لا أكثر يمتلئ نفس الشارع، بل نفس المبنى، بألف بائع لبرامج الكمبيوتر! يقوم شخص بإصدار جريدة إعلانية، وفي غضون سنتين تمتلئ الزوايا والطرقات بهذه الجرائد الاعلانية، بمختلف الألوان والأحجام!! يقوم أحدهم بتأسيس مكتب للطباعة والنشر، وفي غضون بضعة أشهر، فإذا بجانب كل مكتب طباعة ونشر، مكتب طباعة ونشر (الظريف أنه لا يوجد في هذه المكاتب من يعرف شيئاً عن الطباعة أو النشر!).

تهون تأثيرات هذه (المنافسة المحمومة) لو كانت المنتجات جيدة أو مقبولة على أقل تقدير، لكن المصيبة انها رديئة وخرقاء في الغالب!

نفس الظاهرة (الحلمنتيشية) انتقلت الى دنيا صناعة التعليم والتدريب، تكاثرت معاهد التدريب كتكاثر الظباء على خراش، فما عاد يدري خراش ما يصيد، ولا عاد الطالب يدري أين يدرس!

صار في كل زقاق وعند كل ناصية في السالمية وحولي وشرق معهد يعلم كل شيء وأي شيء، وصارت كلها تخرج مّا اسمه مهندس معتمد ومحترف متقدم ومصطلحات أخرى صاروخية، لكن المفارقة متعددة الوجوه في هذه المسألة، أن لا أحد يعرف عن مستويات هؤلاء المعتمدين والمحترفين شيئاً في حقيقة الأمر، فلا معايير ولا مقاييس من أي جهة كانت يمكن الاحتكام أو الرجوع اليها، كما أن الوجه الآخر للمفارقة، والذي هو وجه قبيح ومؤلم أن هؤلاء المعتمدين المحترفين عادة ما ينتهون الى الجلوس في منازلهم تحت ظلال براويز شهاداتهم، لأن لا أحد يقبل بتوظيفهم ولا باعتمادهم!!

في السنوات القليلة الماضية، دخلت إلى الساحة، تجارة جديدة, وهي تجارة (البرمجة اللغوية العصبية)! وهذا المصطلح الخارق لمن لا يعرفه عنوان لعلم باهر (بالفعل).
علم له أسسه وقواعده ومعاييره, يهدف بصورة عامة إلى فهم ومن ثم التحكم بعقل الإنسان الباطن ليتحسن أداؤه وسلوكه على الأصعدة المختلفة (علمياً، عملياً، اجتماعياً، نفسياً، إلى آخره.) أي انه فرع من فروع التطوير الاداري والتنمية البشرية لا أكثر!

لكن باعة البرمجة اللغوية العصبية ما اكتفوا بالمساحة المخصصة لهم ولعلمهم فاقتحموا المساحات الأخرى! اندفعوا لتسويق بضاعتهم على أنها علم علاجي، الأمر الذي قد نقبله نحن الأطباء (على مضض) لأن سوق العلاج والتطبيب وبعد أن غص بالمشعوذين والعطارين والحلاقين، فلن يضره أن يدخله المبرمجون اللغويون العصبيون أيضاً، لكن الجماعة -هداهم الله- جعلوها، واسعة جداً حين بدءوا ببيع بضاعتهم على أنها علم قد يأتي بالمعجزات العلاجية التي يعجز عنها الطب التقليدي! ومنهم من أخبرني يوماً بأنه قد عالج شخصاً عانى من صداع مزمن لسنوات عديدة حيث قال لي وبالنص: (دنا طيرته ليه في نص ساعة!)، ليرد عليه لسان حالي مباشرة وبنفس اللهجة (يا دين النبي، ايه الهلس ده)؟!

ما يزيد الطين بلة أن هؤلاء (المبرمجون) تكاثروا أيضاً كتكاثر من ذكرناهم، وأصبحت البيضة تفقس عن بائع برمجة في كل يوم, وصرنا نقرأ في الصحف إعلاناتهم كل صباح ومساء وهي تقول: (غير حياتك! تخلص من القلق! امتلك النجاح! سيطر على العالم من حولك!!) وغيرها من العبارات المتضخمة والمملوءة بالهواء (الساخن) لا أكثر في الحقيقة!!

مرة أخرى قد يهون الأمر لو أن هؤلاء كلهم كانوا من المتخصصين في هذا العلم فعلاً، لكنني أعرف أن أغلبهم ممن لا يمتلكون من مقوماته إلا دورة واحدة لم تستغرق منهم أكثر من شهر يتيم لينطلقوا بعدها ليبيعون خزعبلات وهذر لا قيمة له على عباد الله الغافلين المتعلقين بأهداب الأمل الكاذب (تصلح أغنية لأم كلثوم)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الكاتب: د. ساجد العبدلي

الأرشيف

خط الزمن
حقيقة المشي على الجمر
القائمة