العلوم مقابل أشباه العلوم

المشاهدات : 1,527
هل بإمكان التنجيم أن يتنبأ بالمستقبل؟
الإجابة البديهية على هذا السؤال هي: “لا”.

هذه البديهية في الإجابة على السؤال -بلا أدنى شك- تأتي بسبب وجود حديث نبوي شريف يفند صحة مزاعم المنجمين، وبالرغم من أن التنجيم غير صحيح، إلا أنه بقي معنا على مدى حوالي 4000 سنة.

يا ترى كيف يمكن لشيء غير صحيح أن يستمر بقاؤه معنا طوال هذه الفترة؟ هل كل من يعتقد بصحة التنجيم ويقرأ برجه اليومي لا يعلم بوجود النهي عنه؟ بالطبع لا.

في ظني أن الغالبية العظمى من المسلمين يعلمون القول المشهور: “كذب المنجمون ولو صدقوا”، كما أظن أن الكثيرين ربما سمعوا بحديث الرسول ﷺ: «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد»، والحديث الآخر: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»، ولكن لا يزال بعضهم يتأثر بالتنجيم، ويستفتح به يومه، ويتابعه على القنوات الفضائية.

نحن نعرف أن التنجيم كذب، ولكننا قلما نتساءل ما القواعد العامة التي تجعل التنجيم خرافة؟ وقلما نتساءل عن أسباب نجاح التنجيم في التأثير على الناس، ولو علمنا القواعد العامة التي يعتمد عليها لأسقطناها على باقي أشباه العلوم التي توهم الناس بصحتها. نحن نحتاج أن تكون لنا قاعدة كقاعدة: “ما أسكر كثيره فقليله حرام”، ومن خلال هذه القاعدة العامة نستطيع رفض أو قبول ما يدعي البعض صحته.

التنجيم يندرج تحت بند شبه العلم، والكثير من “موضات” العصر الحديث أيضا تندرج تحت هذا الباب، فمنها العلاج بالطاقة أو “الريكي”. مثل هذه الأفكار تتلبس بأغشية علمية، تبدو للعالم وللجاهل لأول وهلة على أنها صحيحة، ولكن مع فهم آليات نجاحها في التمويه بالإمكان اكتشاف أسرار انتشارها في العالم، ومن ثم تمييزها عن العلوم ورفضها.

في هذه المقالة القصيرة سأستعرض بعض الأسباب التي تجعل أشباه العلوم -مثل علم الطاقة- تقنعنا بصحتها، وإن كانت خاطئة.

السرد القصصي:

نحن كائنات تحب القصة، ولعل من أفضل الطرق لنقل المعلومات بين الناس سردها قصصيا، فإن لم تكن هناك قصة فسيكون تأثير نقل المعلومات مخففًا أو معدومًا. أستطيع أن أدعي أن البطيخة تعالج حب الشباب، وأتوقف، هل ستصدق ذلك؟

ماذا لو أنني قلت لك أن ابن عمي عانى من حب الشباب طوال عشر سنوات، ولم تذهب منه بثور وجهه المزعجة حتى بدأ بأكل البطيخ بشكل يومي وقبل غروب الشمس بساعة، وبقدر أربع قطع لا تتجاوز كف اليد، الآن وجهه مشرق وصاف كصفاء الماء وناعم كالحرير، وهو اليوم يخرج بكل ثقة بين أصدقائه، والبنات ينظرن إليه بإعجاب شديد. بمثل هذا السرد القصصي غير القائم على التجربة العلمية الدقيقة نتأثر بكل سهولة. وهكذا يتم إقناع الكثير من الناس.

العلم التجريبي المنضبط لا يعبأ بتجربة ابن عمي، فهو يريد أن يصل إلى الحقائق، وهو يريد أن يعرف إن كان للبطيخ تأثيرًا عليه، أو إن كان قد تعدى مرحلة عمر معينة وانتهت معها بثور وجهه، أو أنه استبدل الشكولاتة التي كان يتناولها يوميا بالبطيخ، العلم التجريبي يحاول أن يزيل الستار عن السبب الحقيقي لتجربة ابن العم حتى يستطيع أن يخبر الناس بالطريقة الصحيحة للتخلص من البثور، أما القصة، فلا تتعدى كونها قصة، وإنْ تأثر الناس بها.

الانحياز التأكيدي

حينما تتكون لدينا مفاهيم معينة عن طريقة عمل الكون الذي نعيش فيه، فإننا نرى كل ما يؤكد صحة ما يتفق مع هذه المفاهيم، ونهمل كل ما لا يتفق معها. حينما تشتري سيارة جديدة حمراء اللون، ستبدأ بملاحظة كل السيارات المشابهة لسيارتك أو التي تكون بنفس لونها، وتغفل عن الآلاف المؤلفة من السيارات التي تختلف عن سيارتك.

وهكذا، حينما تعتقد أن العلاج بالطاقة يمكنه أن يشفي السرطان من جسد شخص، فإن ما فعلته هو أنك تمسكت بعدد محدود من الأمثلة التي تدل على ذلك، وأهملت العدد الأكبر من الناس الذين حاولوا مرارًا وتكرارا العلاج بالطاقة ولم يُوفقوا. هذا ما يسمى بالانحياز التأكيدي الذي يؤكد صحة ما تعتقده، أي أنك ترى ما تؤمن بصحته بدلا من أن تؤمن بما تراه صحيحا.

العلم التجريبي يبدأ بفرضية: “العلاج بالطاقة يعالج السرطان” مثلا، ثم يقوم بالتجربة المنضبطة للتأكد من صحة الفرضية، ويأخذ بالنجاح وبالفشل أيضا، وبعد ذلك يقرر إن كان العلاج بالطاقة يعمل كما يدعي أنصاره.

التزامن لا يعني التسبب:

لعل في قصة ابن عمي والبطيخة هناك أيضا أحد أسرار نجاح العلاج بالطاقة، فتزامن شفاء ابن عمي من البثور مع أكله للبطيخ لا يعني بتاتا أن السبب في علاجه هو البطيخ، وتزامن علاج شخص من القولون لا يعني أن تمرير يد المتمرس بعلم الطاقة على جسده هو السبب في شفائه. لا بد من البحث عن الأسباب الحقيقة لشفاء الشخص.

قد نلاحظ أن الذين يصابون بالسرطان أصابعهم صفراء، فنعتقد أن الأصابع الصفر هي السبب في السرطان، ولكن لو أننا تفحصنا الفرضية تفحصا علميا دقيقا لوجدنا أن صفار أصابع المصابين بالسرطان كانت بسبب تدخين السجائر، وهو السبب الحقيقي لإصابتهم بالسرطان، فتزامن صفار أصابعهم لا يعني أنه هو السبب، ولا يعني أيضا أن غسل وإزالة اللون الأصفر سيقضي على المرض.

وهذا ينطبق على تزامن تمرير يدي المتمرس على جسد المريض لتصحيح أو لامتصاص طاقته السلبية، فعلاجه من مرض ما لا يعني بالضرورة أنه كان بسبب تزامن حركة اليد مع الشفاء، بل لا بد من البحث عن الأسباب الحقيقية لشفائه.

الاحتجاج على العلم والأبحاث العلمية الرديئة:

الكثير ممن يعمل في مجالات “الطاقة” يستنجدون بقاموس لغة العلم الغنية بالمصطلحات المبهرة، فتجد أنهم يستخدمون ما أكد عليه العلم في الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا ليضفوا مصداقية على أشباه العلوم، فمثلا تجد استخداما لكلمة الطاقة وميكانيكا الكم والحيوية والمجال المغناطيسي والكون والنسبية وغيرها من المصطلحات في حياكة متقنة كلاميا، ولكن الجمل لا تعني شيئا من الناحية العلمية، كلها تقوم بإيهام المستمع بمصداقية المعلومات حتى إن لم تكن لها أي مصداقية.

أضف لذلك فإن المجلات العلمية الرديئة تمتلئ بالأبحاث غير المنضبطة التي يحتج بها البعض لإثبات وجهة نظره، ويهمل كل بحث علمي دقيق يناقض تلك البحوث (الانحياز التأكيدي مرة أخرى). مثل هذه الانتقائية في الأبحاث يوهم الكثير أن العلاج بالطاقة هو علم حقيقي، وهو في الحقيقة ليس كذلك.

هناك أمور لم أتطرق لها مثل تأثير الإيحاء (Placebo)، والتي تُستغل لصالح شبه العلم، وكذلك الذاكرة التي تخدعنا يوميا، بالإضافة لتأثير الصدارة ورسوخ الاعتقاد، والتي لها تأثيرا سيكولوجيا على استمرار انتشار العلاج بالطاقة أو جميع أنواع أشباه العلوم لقرون عديدة.

لا أتوقع أن الذي يؤمن بمثل هذه الأمور سيغير رأيه بمجرد قراءة هذه المقالة، ولكن أتمنى أن تكون بمثابة نقطة بداية للتفكير السليم، ربما إن لم نستطع أن نقضي على أشباه العلوم تماما قد نتمكن من تحجيم توجه الناس إليها في مقابل العلم الصحيح.

 

_________________
د. محمد قاسم-
أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية-الكويت. المصدر: الجزيرة

https://goo.gl/6JIlwN

 

الأرشيف

فلسفة الطاقة وثنية قديمة في ثوب قشيب
خدعة الأسلمة
القائمة