لا شك أن تحرير المصطلح وتحديد مفهومه مسألة في غاية الأهمية، لا سيما إذا كان الأمر متعلقاً بتقرير مسألة فقهية أو اعتقادية. وقد حصل في الفترة الأخيرة خلطٌ غريب بين بعض المصطلحات الشرعية، والمفاهيم الفلسفية البعيدة عنها كل البعد، حتى التبس الأمر على كثير من الناس وظنوا أن تلك المفاهيم المنحرفة لا تتعارض مع الشرع، أو ظنوا أنها جزء منه.
ومن تلك المصطلحات المثيرة للجدل: الفأل، والتفاؤل، والظن بالله سيئُه وحسنه، وعلاقة كل منها بما يُسمى: قانون الجذب.
وفي السطور التالية سأتناول كل واحد من هذه المصطلحات بالتعريف والتوضيح المقتضب من المنظور الشرعي السليم، لتتضح الفروق بينها وبين القانون الفلسفي -الخطير- الذي أصبحت تُقرن به.
أولاً: الفأل.
ورد هذا اللفظ في عدة مواضع من السنة النبوية في معرض المدح، أو الإعجاب، ومن ذلك قوله ﷺ: [لا طيرة، وخيرها الفأل]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح] . ولما سئل: ما الفأل يا رسول الله؟ فسَّر النبي ﷺ هذا المصطلح تفسيراً واضحاً بيّناً فقال: [الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم], وقال: [الفأل الصالح: الكلمة الحسنة].
فالفأل هو ما يُسَر به الإنسان ويَستَبشِر به عَرَضاً، وهي طبيعة بشرية ليس لها تعلق بإقدام المرء أو إحجامه. يقول ابن القيم رحمه الله: «ليس بالإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك؛ بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، والله جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه. وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلامة والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك».
والفأل لا يكون بقصد من الإنسان ولا بسعي منه، بل يحصل اتفاقاً فينشرح به الصدر، قال ابن تيمية رحمه الله: «والفأل الذي يحبه ﷺ هو أن يفعل أمراً أو يعزم عليه متوكلاً على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره». وقال الشيخ حافظ الحكمي: ىومن شرط الفأل أن لا يُعتمد عليه، وأن لا يكون مقصوداً – بل أن يتفق للإنسان ذلك من غير أن يكون له على بال». وشدد النفراوي على ذلك في (الفواكه) حيث قال: «هذا إذا لم يقصده، وأما إذا قصد سماع الفأل ليعمل على ما يسمع من خير أو شر فلا يجوز, لأنه من الأزلام المحرمة التي كانت تفعلها الجاهلية ».
كما أن الفأل لا يُعتبر سبباً لحصول المرغوب، ولا دليلاً على قربه، إذ لا يُتصور أن يعتقد النبي r أن سماع قول القائل: (يا سالم) سبب في شفاء المريض، أو (يا واجد) سبب في استرجاع الضالة، بل هو كما في نص الحديث مجرد كلمة «تسُره» لطبيعة الإنسان وميله الفطري.
ومما يدل على ذلك ما قررته النصوص الواردة في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك، والفأل من جنس الطيرة وإنما استثناه منها النبي r لما فيه من معاني الرجاء وإحسان الظن، أما إذا اعتقد الإنسان أن الفأل سبب في دفع الضر أو جلب المنفعة رجع حكمه إلى الطيرة وكان كحكمها، وكذلك إن كان إقدام الإنسان أو إحجامه بسبب الفأل، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (القول المفيد): «إن اعتمد عليه -أي الفأل- وكان سببا لإقدامه؛ فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطاً في طلبه؛ فهذا من الفأل المحمود».
فالمقصود: أن الفأل الذي كان يُعجب النبي r هو الكلمة الطيبة ونحوها يسمعها الإنسان عرضاً دون تقصد؛ فتسره وينشرح بها صدره، مع عدم تأثيرها في مضيه أو ردّه، ودون أن يعتقد أنها سبب مباشر لحصول المرغوب.
ثانياً: التفاؤل.
لم يرد لفظ «التفاؤل» -حسب اطلاعي- في السنة مطلقاً، وإنما الذي ورد لفظ «الفأل»، وبينهما فرق لطيف، فالتفاؤل ليس هو الفأل، بل فيه زيادة عليه تقتضي القصد والحركة والتفاعل، فالتفاؤل هو ما يحصل عند الفأل، قال ابن فارس: «لفأل: ما يُتفاءل به» ، وفي القاموس المحيط: «وقد تَفاءَلَ به، وتَفَأَّلَ».
ويُطلق التفاؤل في هذا العصر الحديث ويراد به أحد ثلاثة معاني:
- أولها: التفاؤل بمعنى الاستبشار والسرور بالفأل، وهذا من الأمور المشروعة المستحبة، وهو الذي كان يُعجب النبي ﷺ. قال الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله: «ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من الكلام، فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأُ من مرضه، ويجد ضالته» قال: «لأن الناس إذا أمّلوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله، كان ذلك من الشر».
- ثانيها: التفاؤل بمعنى الرجاء، كأن يقال للمريض: تفاءل بالشفاء، أو للطالب: تفاءل بالنجاح، ويراد به: أرجُ الله أن يشفيك أو يرزقك النجاح. والرجاء (وإن كان في إطلاق التفاؤل عليه نظر ) من العبادات القلبية المحمودة، ولكنه يختلف عن التمني. قال ابن القيم رحمه الله: «الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز، والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه، قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ) فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء» . ولكن العبد الراجي لا يتحقق من حصول الذي يرجوه، وإنما دائماً يخشى فواته، قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله: «الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً؛ فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله» ، وكذا قال أبو سليمان الدّارانيّ رحمه الله: «من حسُن ظنه بالله تعالى، ثم لا يخاف الله، فهو مخدوع» .
- ثالثها: التفاؤل بمعنى توقع حصول المرغوب بعينه، وهو معنى شائع عند كثير من الناس، وهذا إذا كان مبعثه الرجاء، فهو كالسابق، وإن كان المقصود منه أن هذا «التفكير» سبب لحصول عين المرغوب، فهذا هو محل النزاع الذي من أجله حرر هذا المقال.
ومن قال بهذا المعنى استدل عليه – في الغالب – بواحد من دليلين:
- الأول: الأثر المشهور: (تفاءلوا بالخير تجدوه)، حيث يُظن أنه من حديث المصطفى ﷺ، والصحيح أنها لا تصح نسبته للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس في أي من كتب السنة، وإنما هو من أقوال الناس التي لا تُعد حجة، بل تحتمل الصواب والخطأ.
وليس المقصود – هنا – ذم التفاؤل، فهو خلق حسن، قد يكون نافعا للنفس والجسد، وربما امتُدح شرعاً لما يُحدثه من حسن الرجاء، وهي عبادة قلبية محمودة. وإن كان استخدام لفظ «الرجاء» هو الأولى عندي للتعبير عن هذا المعنى دون إحداث لبس.
- الثاني: قول الله تعالى في الحديث القدسي: [أنا عند ظن عبدي بي] برواياته المختلفة، وهو ما سيتم تناوله في الفقرة التالية.
ثالثاً: الظن.
تكلم علماء السلف عن معنى قول الله Y: [ أنا عند ظن عبدي بي ]، فكان من المعاني التي حُمل عليها هذا الحديث:
- رجاء رحمة الله تعالى عند اقتراب لقائه، قال ابن أبي العز رحمه الله بعد سياقه الحديث: «وفي صحيح مسلم عن جابر ﷺ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: [لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه]، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه» . وكذا قال القرطبي: «وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربه، ويكون الخوف في صحته أغلب عليه، إذا لا يعلم بما يختم له، ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه، لحسن الظن بالله، قال رسول الله ﷺ: [لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن]»، وبمثله قال غير واحد من السلف. وقال الخطابي في هذا الحديث «يعني في حسن عمله، فمن حسن عمله حسن ظنه، ومن ساء عمله ساء ظنه». وقد رجح هذا المعنى ابن حجر بقوله رحمه الله: «وهو – كما قال أهل التحقيق – مُقيّد بالمحتضر، ويؤيد ذلك حديث [ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله] ».
- ظن الإنسان بأن الله يرحمه ويغفر له، أو يثيبه ويعاقبه، ونحو ذلك، قال ابن بطال: «وقوله: [أنا عند ظن عبدى بى] لا يتوجه إلا إلى المؤمنين خاصة، أي: أنا عند ظن عبدى المؤمن بي، وفى القرآن آيات تشهد أن عباده المؤمنين – وإن أسرفوا على أنفسهم -أنه عند ظنهم به من المغفرة والرحمة». وقال القاضي: «قيل معناه: بالغفران له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية، وقيل المراد: به الرجاء، وتأميل العفو، وهذا أصح». وفي شرح صحيح مسلم للنووي: «قال العلماء: معنى (حسن الظن بالله تعالى) أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفا راجيا ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء». وقال العيني في (عمدة القاري): «يعني: إن ظن أني أعفو عنه، وأغفر له، فله ذلك، وإن ظن العقوبة والمؤاخذة، فكذلك». وفي باب استجابة الدعاء، قال ابن رجب: «فالإلحاحُ بالدعاء بالمغفرة، مع رجاء الله تعالى، موجبٌ للمغفرة، والله تعالى يقول: [أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء] ».
ومن القواعد المهمة في مفهوم (حسن الظن بالله): أنه لا يكون إلا مقترناً بالعمل، قال الحسن: «إن قوماً أساءوا العمل، وقالوا: نحسن الظن! ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل»، وقال: «إن قوما ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة، يقول: إني لحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن بربه لأحسن العمل» . وقال ابن القيم رحمه الله: «ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، وأن لا يخلف وعده وأن يقبل توبته».
وأكد ابن الجوزي رحمه الله اشتراط العمل بقوله: «اعلم أن صدق رجاء المؤمن لفضل الله تعالى وجوده يوجب حسن الظن به، وليس حُسن الظن به ما يعتقده الجهال من الرجاء مع الإصرار على المعاصي، وإنما مثلهم في ذلك كمثل من رجا حصادًا وما زرع، أو ولدا وما نكح. وإنما العارف بالله تعالى يتوب ويرجو القبول، ويطيع ويرجو الثواب».
وقديماً قال الشاعر:
ترجو النَّجاة ولم تسلُك مسالِكها | إن السّفينةَ لا تَجـــــــــرِي على اليبسِ |
فإحسان الظن متعلقٌ بالعمل، ولا يمكن أن ينفصل عنه في أمر الدنيا، والدين، والظن المجرد من العمل ليس من الرجاء ولا من حسن الظن، بل هو من الأماني المنهي عنها شرعاً. ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه، راجياً أن الله يقبله ويغفر له، فقد وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد -أو ظن- أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن، وأما ظن المغفرة مع الإصرار، فذلك محض الجهل والغرة، وهو يجر إلى مذهب المرجئة .
فالمقصود: أن (حسن الظن) عند السلف لم يُفسر بغير ما سبق، فهو دائر بين المعاني التالية:
- الرجاء عند الموت.
- رجاء الرحمة والمغفرة.
- ظن الإجابة عند الدعاء.
- ظن القبول عند التوبة.
- ظن قبول العبادة .
أما أن يكون حديث: [أنا عند ظن عبدي بي] بمعنى: [تفاءلوا بالخير تجدوه]، وأن ما يتوقع الإنسان حصوله يحصل – فلا أعلم أن أحدا من السلف قال به.
بل إن حسن الظن بالله يستلزم إحسان الظن بتدبيره تعالى، وأن الذي يختاره الرب للعبد خير مما يختاره لنفسه، وفي دعاء الاستخارة المأثور: [اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب… الحديث] ، وفي دعاء آخر من السُّنة النبوية: [للهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي] .
ولذلك فإن ذكر السلف لحديث: [أنا عند ظن عبدي بي] لم يكن قط في أبواب القدر، وإنما أوردوه ضمن أحاديث الرجاء وإنجاز الوعد، وفي معاملة الرب عبده من حيث الثواب والعقاب والجزاء والمغفرة ونحو ذلك مما يتعلق بالآخرة.
وفي المقابل فإن «سوء الظن» لا يعني الاعتقاد بأن الله لا يحقق للإنسان عين رغبته، بل فسّره علماء السلف بما يتناسب مع تفسيرهم لحسن الظن.
والأصل في سوء الظن قوله تعالى: (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)، وقوله: (بل ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا).
فهذه الآيات وردت في الكفار والمنافقين الذين اعتقدوا أن الله لن ينصر نبيه وقد حصل خلاف ما ظنوا ، وفي اعتقادهم ما لا يليق بأفعال الله وصفاته.
وقد ذكر ابن القيّم أنواع إساءة الظن بالله باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب، فجعلها من الأنواع التالية:
- أن يقنط العبد من رحمة الله.
- أن يظن أن الله لا ينصر دينه ونبيه.
- أن يظن أن الله يعذب أولياءه ويساويهم بأعدائه.
- أن يظن أن الله يترك خلقه سدى.
- أن يظن أن الله يضيّع عمله الصالح.
- أن يظن أن له ولدا أو شريكاً.
- أن يظن أن الله لا يعوضه خيرا مما ترك لأجله.
- أن يظن أن الله لا يجيب الدعاء.
- أن يظن أن الله يثيب العاصي كما يثيب المطيع.
- أن يظن أن غير الله يخلصه من عذابه.
فظن السوء متعلق بالقنوط من رحمة الله، والخلط بين ثوابه وعقابه، والإيمان بصفاته، وليس اعتقاد أن الله لا يلزمه أن يحقق للإنسان عين مرغوبه من إساءة الظن، والقول بأن القدر – بإطلاقة – يجيء ويذهب حسب ما يظنه الإنسان، ويتوقعه هو إلى سوء الظن أقرب منه إلى حسنه، قال ابن القيم رحمه الله: «فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْء، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ، وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّى، ومنعني ما أستحقُه».
رابعاً: قانون الجذب.
يُعرف مايكل جيه. لوسيير قانون الجذب بقوله: «يجذب المرء إلى حياته كل ما يُكرس له انتباهه وطاقته وتركيزه، سواء كان سلبياً أو إيجابياً»، ويقول صلاح الراشد: «قانون الجذب ينص على أننا نجتذب الأحداث التي في حياتنا، وأننا نجتذب إلينا ما نجتذب وفق تجاذب المتشابهات لبعضها البعض» .
ولسنا بصدد الرد على قانون الجذب، وبيان مخالفته الصريحة لمعتقد المسلم في صفات الله تبارك وتعالى وفي قضائه وقدره، فذلك رد يطول بسطه، وإنما المقصود أن هذا «القانون» لا علاقة له بالمفاهيم الشرعية التي تم تناولها سابقاً، كاستحسان رسول الله ﷺ للفأل.
إن قانون الجذب مبدأ قديم له أصل في الفلسفة الشرقية وفي الفكر الباطني الثيوصوفي، وهو قائم على أن الفكر هو الذي يخلق الواقع، وأن ما يُفكر فيه الإنسان يتجلى عبر تحول الفكرة المجردة إلى حدث أو وجود محسوس، فالإنسان مسؤول مطلق عن حياته، وهو الذي يصنع قدره بنفسه!
وهذا المعنى القبيح لو أُبقي على صورته الفلسفية الأصلية لكان بطلانه ظاهرا، ولكنه أُلبس لباساً شرعياً، متستراً بتفسير مُبتدع محدث لنصوص الوحيين، حتى التبس الأمر على عوام الناس –بل على بعض طلاب العلم– حين ظنوا أن هذا القانون لا يخالف الشرع، أو أنه من الدين أصلاً. وهذا ظلم للشريعة وتعد سافر على مدلول النص الشرعي، فحُمّلت النصوص من المعاني الفلسفية ما لا تحتمل، وطبق الاصطلاح الشرعي على تلك المعاني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا لو كانت تلك المعاني التي يذكرها الفلاسفة صحيحة ماجاز، بل كان من الكذب على الله ورسوله أن يُقال: إنه أرادها، فكيف وأكثر تلك المعاني باطلة؟».
ولعلي أشير إلى أبرز الفروق بين المفهوم الشرعي للفأل والظن وبين المفهوم الفلسفي لقانون الجذب، ولو تأمل القارئ أقوال المتأثرين بهذه الفلسفة، وأثرها على نظرتهم للكون ولأنفسهم، لعلم -يقيناً- أن الرسول ﷺ لا يمكن أن يأمر بهذا، ولا يعجبه، ولا يستحسنه، وهو القائل في شرك لفظي يسير : [جعلتني لله عدلاً ؟! بل: ما شاء الله وحده].
ومن تلك الفروق ما يلي:
- – الفأل الذي كان يُعجب النبي r سرور واستبشار عرضي لا يُتقصّد، وقانون الجذب يُقصد ويُتعمد، وتؤلف فيه مئات الكتب وتقام الدورات لأجله.
- – الفأل لا يُعد سبباً في حصول المرغوب ويُعد من الطيرة الشركية حال اعتقاد ذلك، بينما الفكر في قانون الجذب ليس مجرد سبب في حدوث الأمر بل هو المحدِث له والصانع.
- – أن المسلم لا يمضي بسبب الفأل كما لا يحجم بسبب التطير تأكيداً لانعدام العلاقة السببية، والكلمة والفكرة عند القائلين بالجذب تتجاوز السببية إلى الخلق والإيجاد.
- – أن التفاؤل بمعنى الرجاء متعلق بالعمل وإن تجرد منه فهو أماني، أما قانون الجذب فيعمل على التفكير وحده، ولا يلزم معه العمل.
- – أن الراجي لا يقطع بحصول ما يرجوه، بينما سمي قانون الجذب بذلك لأنه لا يمكن أن يتخلف في رأيهم.
- – أن الرجاء يقترن بالخوف فالراجي يخاف فوات ما يرجو، وقانون الجذب مبني على اليقين.
- – أن إحسان الظن بالله مرتبط بالعمل كذلك، ولا يُشترط العمل في قانون الجذب.
- – حسن الظن بالله هو في باب الأعمال القلبية وصفات الله، وقانون الجذب هو في صلب القدر.
- – أن من حسن الظن بالله التسليم أنه تعالى أحكم وأعلم، وأن ما يكتبه لك خير مما تريده لنفسك، وقانون الجذب يُلغي الحكمة الإلهية في القدر، ويجعل الحكم فيه إرادة الإنسان وفكره، ويربطه بقانون الكارما الهندوسي .
- – أن من يُحسن الظن بربه يوقن أن عليه فعل الأسباب لا تحقيق النتائج، بينما النتيجة في قانون الجذب هي بيد الإنسان نفسه.
- – أن المنهج الشرعي قائم على الاعتماد والتوكل على الله تعالى مع العمل والكسب، وقانون الجذب قائم على الاعتماد الكلي على قدرات الذات وعمل الفكر.
- وأخيراً، لا يختلف مسلمان في أن المعطي والمانع هو الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء، ولكن الذي يعطي ويمنع عند القائلين بالجذب لا يُدرك الفرق بين الرسائل المنفية والمثبتة، فإن قلت: لا أريد المرض أعطاك المرض، وإن فكرت أنك لن تفشل أعطاك الفشل، فمن هو المانع المعطي عند هؤلاء يا ترى؟
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتبة: د. هيفاء بنت ناصر الرشيد
١٤٣٥هـ