هذه الأسطر لنتذكر معًا ضوابط المنهج العلمي لقبول الأفكار أوردها.. ثم نفحص في ضوئها حقيقة الوافدات الفكرية (الـNLP، الطاقة، الماكروبيوتيك، الريكي، التشي كونغ…).
كان العلماء على مرّ العصور حصناً منيعاً ضد الخرافات والدجل والأوهام، وعلماء الإسلام خاصة كانوا في ذلك أكثر تفوقاً لضبطهم منهج قبول النقل وتقنينهم منهج اختبار كل ما يُدعى ثبوته بالعقل والتجربة، فما من دين دعا إلى المنهجية العلمية كالإسلام بدعواته المتنوعة للتأمل والتفكر والعلم والتعقل والتذكر، والمسلم الذي يعيش في ظل الحضارة الإسلامية يتفاعل تفاعلا مميزاً مع الحضارات حوله فيأخذ ويدع بمعيارية ثابتة، ورؤية ثاقبة، ومن هذه المعيارية ما وضعه علماء الإسلام على امتداد العصور من منهجيات تضبط القبول والرد عند النظر في تقييم أي وافدات فكرية وادعاءات علمية، وكانوا في ذلك رواداً؛ فلم تكن الدعاوى تقبل لمجرد التدليل عليها بنصوص الوحيين أو أدلة العقل دون تحقيق وتدقيق، فالتحقيق: إثبات المسألة بدليلها، والتدقيق: فحص وجه الدلالة من الدليل ومدى مناسبته للمسألة (الدعوى).
وكان شعارهم: إذا كنت ناقلاً فالصحة (توثيق النص) أو مدعياً فالدليل، فكانوا -رحمهم الله- رواداً في التمييز بين الحقائق والدعاوى، وأخذ الحق ورد الباطل مهما مزج بينهما المبطلون ولبّسوا .
ومن هنا؛ كان لابد من استخدام المنهج العلمي لتقويم ما يفد علينا من أفكار بنظرة صحيحة مبنية على أسس القبول والرد سواء فيما استُدل عليه بالعقل أو ما استُدل عليه بالنقل في ضوء القواعد المنهجية العامة للنظر في الأدلة تحقيقاً وتدقيقاً. ومن هذه القواعد:
– اشتراط الصحة والعدالة حيطة للمنقول وضبطاً لأسانيده.
– فهم النصوص الشرعية ودلالاتها في ضوء فهم السلف من عدول الأمة.
– تقييد العقل وعدم الاعتداد به في غير مجاله ( الغيبيات: الألوهية بما تتضمنه من حقائق الربوبية والأسماء والصفات والملائكة، والجن والشياطين، وأحداث آخر الزمان، اليوم الآخر، الجنة والنار، وعلاقة الإنسان بربه والكون…) فلم يكن يُقبل في مجال الغيبيات إلا ما كان مصدره الخبر الصادق تحقيقاً وتدقيقاً.
– إثبات التوافق بين صحيح العقل وصريح النقل ودرء التعارض بينهما، فمن علامات صحة المعقول ألا يتعارض مع منقول صريح، ووجود تعارض أو شبهة تعارض تجعل من اللازم إعادة النظر في المعقول، واتهام قدرة العقل، فالعقل نعمة ربانية تتمثل في قدرة بشرية محدودة، تقوى وتضعف وقد يغلب عليها الوهم والظنّ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب، أو شرط السبب، في هذا الأمر الحادث قد يُعلم كثيراً، وقد يظن كثيراً، وقد يُتوهم كثيراً وهماً ليس له مستند صحيح، إلا ضعف العقل).
ولهذا كانوا -يرحمهم الله- يقدّرون فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- للنصوص وتفسيرهم لها، كما كانوا يتضرعون لله أن يفتح عليهم ويسددهم ولا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين.
وبالنسبة للعلوم التجريبية والإنسانية والاجتماعية عامة فيمكن تلخيص أهم الملاحظات وأساسيات القبول والرد في خطوات المنهج العلمي المتبع لتحقيق مسائلها، وتدقيق أدلتها ويسمى في الغرب اليوم: (Scientific Method)، ويتضمن تلخيص الإجراءات التي أجمع العلماء على استخدامها عبر العصور؛ لتكوين تشكيل أو تمثيل صحيح للمشاهدات المتنوعة للوقائع والظواهر المختلفة في العالم.
ومن أهم ما يميز المنهج العلمي أنه دقيق وشامل ويمكن الاعتماد عليه؛ إذ لايقبل فيه كلام ملقى على عواهنه، فالقناعات الشخصية، والقناعات الجماعية لا شك تؤثر على انطباعاتنا، وتفسيرنا للظواهر الطبيعية، لذا فاستخدام إجراءات معيارية قياسية منهجية يهدف للتقليل من هذا التأثير عند تطوير أي فرضية أو نظرية.
مراحل المنهج العلمي:
المرحلة الأولى: ملاحظة وتوصيف الظاهرة أو مجموعة الظواهر (المشاهدات أو الملاحظات).
المرحلة الثانية: تكوين معادلة أو تشكيل فرضية تشرح أو توضح الظاهرة أو الظواهر. وغالباً مايستعين الإنسان بعلاقات كُونت سابقاً في تشكيل الأفكار الجديدة فرضية أو نظرية.
المرحلة الثالثة: الاختبار والتجربة؛ ويتحقق من خلالها:
– استخدام الفرضية لتوقع وجود ظواهر جديدة، أو للتوقع الكمي لنتائج ظواهر جديدة.
– إجراء اختبارات وتجارب للنتائج المتوقعة (المظنونة) بتجارب متفرقة لا تعتمد على بعضها البعض على أن تُؤدى بأدق وأنسب صورة مجردة عن هوى الباحث في نتائج معينة يتمناها.
المرحلة الرابعة: إذا دَعمت كل التجارب الفرضية بنجاح؛ فإنه يمكن اعتمادها نظرية أو قانوناً طبيعياً أو سنة كونية أو نموذجاً. وإن لم تَدعم التجارب الفرضية فلابد من تعديل الفرضية أو رفضها.
ملاحظات على النظرية والحقيقة:
– قد لايمكن إثبات النظرية، ولكن يمكن معارضتها بظواهر ومشاهدات حقيقية.
– كل نظرية لابد أن تكون قابلة للاختبار وإلا فإنها لا تسمى نظرية.
– ينتبه لما يسمى بالهيورستك “Heuristic”؛ وهو عبارة عن منهجيات للعمل ناجحة، لكن لا يمكن إثبات صحتها أو أولويتها، مثال: مريض بثلاثة أمراض، فيُرتب علاج هذه الأمراض بمنهجية متعارف عليها لا على أسس معينة أو نتائج سابقة. فليست هذه التقنيات فرضية ولا نظرية إنما هي وصفات متعارف عليها ولا يمكن اعتبار نتائجها حقائق مطردة.
– قد تعيش النظريات لفترة طويلة جداً ثم يتبين ظرفيتها (عدم تعميمها واختصاصها بزمان معين أو مكان) كقانون “نيوتن”، أي أن النظرية مع الزمن يمكن أن تصبح جزءً من نظرية أكبر، فتصبح الأولى حالة خاصة من النظريات الثانية الأكبر، مثل: نظرية أن الكواكب تدور حول الأرض (كانت هذه نظرية)، وهي صحيحة بنسبة، ومع استمرار الملاحظة للظواهر والبحث العلمي تبين أن الشمس تدور حولها الكواكب بما فيها الأرض. ومن ثم أصبحت نظرية دوران الكواكب حول الأرض جزء من النظرية الأكبر منها وهي دوران الكواكب جميعها حول الشمس.
وقد تبيّن للعلماء أن أكثر النظريات لها طابع الظرفية، إلا أن كثيراً من هذه الظروف توضع كمُسلمات أو بديهيات فلا يُهتم بذكرها. مثل: نظرية دوران الأجرام حول الأرض، ثم نظرية دوران الكواكب التسعة حول الشمس في مدار دائري، ثم نظرية الدوران في مدار اهليجي.
فلابد أن يتبع المنهج التجريبي الصحيح في التجارب التي يتم إجراءها لتدعم فرضية أو نظرية وفي تفسير نتائجها ومخرجاتها، ومن أهم الملاحظات على التجارب والأخطاء الشائعة التي ينبغي الانتباه لها:
– الأخطاء التي مردها إلى محدودية قدرة كل أجهزة ( أدوات ) القياس. وهذا الخطأ ينتج عنه إعطاء نتائج متساوية أو متشابهة ولكنها بعيدة عن الحقيقة بقدر وجود هذا الخطأ، مثال : تصميم استبانة لقياس الغضب لدى الناس مكونة من ثلاثة أسئلة، فإنها قد تعطي نتائج متشابهة أو متقاربة أو متجانسة رغم أنها بعيدة عن الحقيقة بقدر بعد الاستبانة عن أن تكون مناسبة، لذا يراعى في الاستبانات تحقيق معيارية الصدق والثبات.
– الأخطاء الإحصائية، وبالإمكان توقعها أو قياسها، ومن ثم تضاف للنتيجة، ويتم تعديلها بناءً عليها. أو التنبيه على أن مصداقية النتيجة بحسب الخطأ المتوقع.
– هناك أخطاء نابعة من الرغبة الشخصية، أو تأثير النتيجة المأمولة Wishfull thinking حيث يفضل الباحث نتيجة على أخرى ويتمنى تحققها؛ مما يؤثر في تفسيره للنتائج وتأويلها لتخدم ما يتمناه لا سيما إن وجد احتمالاً قريباً أو شبهة.
– هناك أخطاء مردها إلى الوهم في الأسباب والمسببات، أو ما يسمى بـ(الزلل التراجعي) Regressive fallacy حيث يربط الباحث بين الملاحظة وشيء مقترن بها دون أن يكون بينهما علاقة سوى الاقتران، كما لو حدث أن أغمض أحدهم عينيه فدقّ جرس المنـزل وتكرر هذا مرات؛ فيدعي أن إغماض العينين سبب في دقّ الجرس أو تسريع حضور الزوار! يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: في توضيح عدم صلاحية مجرد الاقتران ليكون سبباً: (أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء -دعاء مبتدع جربه- أو هذا النذر كان هو السبب أو بعض السبب في حصول المطلوب، لابد له من دلالة، ولا دليل على ذلك غالباً إلا الاقتران أحيانا -أعني وجودهما جميعاً- وإن تراخى أحدهما عن الآخر مكاناً أو زماناً مع الانتقاض، أضعاف أضعاف الاقتران. ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه، ليس دليلاً على الغلبة باتفاق العقلاء إذا كان هناك سبب آخر صالح، إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم الغلبة. فإن قيل: إن التخلف بفوات شرط، أو لوجود مانع. قيل: بل الاقتران لوجود سبب آخر، وهذا هو الراجح).
– أسوأ الأخطاء هو أن تكون الاختبارات عاجزة عن إثبات الفرضية، ويدّعي الباحث إثبات الفرضية بها.
– من الأخطاء الكبيرة عدم إجراء التجارب (عدم وضع الفرضية تحت الاختبار)، وبالتالي الخروج بنظرية من مجرد المشاهدات اعتماداً على المنطق البسيط والإحساس العام (الانطباع) والتفكير المأمول.
– من الأخطاء التي يجب التنبه لها: (الانتقائية) وهي غض الطرف عن نتائج الاختبارات التي لا تتناسب مع الفرضية التي يرغب في إثباتها.
وهكذا عاش سلف الأمة رواداً في العلم، وأئمة في الإيمان كما شهد بذلك التاريخ. وخلت المجتمعات المسلمة من أي صراع بين العلم والدين. ولم تستطع المذاهب والضلالات أن تجد طريقها لقلوب وعقول الأئمة وطلاب العلم، وإنما استقرت ونبتت بين الجهلة وأهل البدع وأهل المنطق ممن أخذوا غيباً من غير المصدر الحق، أو أعملوا عقولهم فيما لا مجال للعقل فيه.
وصية..
حتى لا يغيّب المنهج العلمي! وحتى لا يفشو الجهل تحت اسم العلم والحكمة! وشعارات التحضر ومواكبة جديد العصر! لابد من وقفة تأملية علمية جادة من قبل أهل العلم في التخصصات المختلفة للوافدات الفكرية (البرمجة اللغوية العصبية، الطاقة، الريكي، الماكروبيوتيك، التشي كونغ…) وقفة تراعي الثوابت والمتغيرات بوعي وحكمة فكثير مما يُدعى أنه علم إنما هو محض جهل وباطل مُزج بشيء من العلم وخلط بشيئ من الحق تدليساً، وكثير مما يزعم أنه ثبت علمياً يكون مجرد نتائج مأمولة لأبحاث غير علمية أو بمنهجية خاطئة.
كما ولابد من تربية الأجيال على أنماط التفكير المنهجية كالتفكير الناقد والتفكير السابر والتفكير الإبداعي ونحوها لينشئ جيل يميز الخبيث من الطيب، ويشق طريقه بثبات نحو الحق والحقيقة في زمن كثر فيه اختلاط الحقائق بالدعاوى، والتباس الحق بالباطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ