مناقشة الشبهات:
يتذرع كثير من مشجعي تطبيقات هذه المذاهب الوافدة وعلاجاتها ورياضاتها ودوراتها ببعض أمور، نقف هنا في نهاية هذا الكتاب وقفة توضيحية موجزة مع بعض أقوالهم التي يبررون بها أخذهم بهذه الأفكار والمناهج تلك الأقوال التي شكلت من بعدهم شبهًا عند عامة المسلمين.
أولاً: قولهم: إن هذه العلوم توافق في أكثرها ما هو ثابت في نصوص ديننا أو في سير الصحابة والسلف:
حقيقة الأمر أنهم يتعلقون بنصوص وأمور اشتبهت عليهم لم يفهموا المراد منها فهماً صحيحاً، وما أوقعهم في هذا أحد ثلاثة أمور ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: “عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلاً ثلاثة أمور: إما احتجاج بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب شيطاني“. فيأخذون من قوله تعالى: (أَفَلَا يُبْصِرُونَ) و (لَا يَشْعُرُونَ) و (أَفَلَا يَسْمَعُون) دليلاً على أن الناس أنماط ثلاثة: سمعيون وبصريون وحسيون، وأن لكل نوع خصائص نفسية وسمات للشخصية! إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
ويستدلون باستخدام قول رسول الله ﷺ لغة القوم بقوله: (ليس من امْبِرِّ امْصيام في امسفر) إجابة على أعرابي سأل: هل من امبرم صيام في امسفر؟ على تقنية “الألفة البرمجية” التي تبدأ بموافقة الشخص في لغته وحركاته وعلو صوته ودرجة سرعة تنفسه، للدخول إلى عقله الباطن والتأثير الخفي فيه، ومن ثم قيادته وتوجيهه دون مقاومة من عقله بتأثير العقل الباطن!
ويأخذون من قصة صبر بلال -رضي الله عنه- وثباته مرددصا: (أحد أحد) دليلاً على مشروعية التأمل التجاوزي وأثر (المانترا)! ويجعلون من قصة عروة بن الزبير -رضي الله عنه- عندما استغرق في صلاته وبتروا ساقه دليلاً على مشروعية التأمل الارتقائي!
ويجعلون قصة ربط أبي دجانة -رضي الله عنه- للعصابة الحمراء على جبينه في المعركة دليلاً على تطبيق الصحابة لفلسفة “الشكرات” وتأثيرات ألوانها على النفس! وغير ذلك مما تزخر به دورات المدربين المسلمين المفتونين، مما يصعب تقصيه وتفنيده في هذا الكتاب المختصر، ولكنك لو تأملته ببصيرة دينية وخلفية شرعية لعجبت من هذا التطاول والفهم المريض للنصوص والسير.
والحق أن: كثيراً مما في هذه الأفكار الوافدة وتطبيقاتها يتعارض مع الدين وينقضه وإن اشتبه على بعض الناس والتبس عليهم؛ لامتزاجه ببعض ما يتوافق مع الدين مما يوصل إليه العقل المجرد، فالعقل -كما هو معلوم- يوصل إلى الحق في عالم الشهادة، وهذه التطبيقات ممتزجة بنظريات أو حقائق علمية صحيحة مأخوذة من مصادرها العلمية الصحيحة من علم النفس والإدارة وغيرها.
فما كان في هذه التطبيقات من موافقة للدين فهو مما يوصل إليه العقل الصحيح في أمور عالم الشهادة.
والمسلم المعتزَ بدينه المستعلي به، يُعمل عقله في أمور الحياة –عالم الشهادة- التي لم يأت بتفصيلها الوحي وندبه إلى التفكير فيها، ولكنه لا يعدل عما جاءه عن الله بالوحي؛ فالنقل عنده مقدم على العقل، لاحتمال ضعف العقل وفساد دلالته، ومن هنا كان فرح المؤمن بنعمة الرسالة عظيم؛ فإرسال الرسل يغني العقل عن مخاطر التجربة في الواقع، في معرفة الضار والنافع من كل شيء، ولذا كان التوجيه الرباني: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] والتوجيه النبوي: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي» ومن نور هذه المشكاة كانت وصية السلف -رضوان الله عليهم-: “على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علماً يقينياً ، وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول ، فإن مثل ذلك مثل من كان سائراً إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها، وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك. وأما من عارض الكتاب والسنة بما فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة، فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائناً من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ. وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور ما لا يحصيه إلا العليم بذات الصدور“.
ثم إننا لو سلمنا جدلاً بأن تطبيقات هذه المذاهب تتوافق مع الدين، فالأخذ بها استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعدول عن المشروع؛ وذلك هو الخسران المبين. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ” من شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته ، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع؛ فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه، ويكمل إسلامه“.
ثانيًا : قولهم هي أمور دنيوية حياتية، فالأخذ بها من باب: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
هذه الجملة جزء من حديث عن رسول الله ﷺ في حادثة تأبير النخل المشهورة، وفهمها ينبغي أن يكون في ضوء القصة وسياقها لا بحسب الهوى والرغبة، فأمور دنيانا هي أمور صناعتنا وزراعتنا وسائر الأمور المتعلقة بالأمور الدنيوية البحتة من إدارة وتخطيط وتكنولوجيا ومواصلات، واتصالات، وتقنيات، ونحوها أما أمور تربية ذواتنا وتزكية أنفسنا، وتهذيب أخلاقنا، وسمو أرواحنا فهي من الأمور الدينية التي بعث الله بها محمداًr بمنهج كامل شامل نافع، والقول بغير هذا ينبع من غفلة عن كنوز الوحيين، أو حصر لمفهوم الدين في الشعائر التعبدية. قال ابن تيمية -رحمه الله- موضحًا هذا الأمر: “وقد يكون علم من غير الرسول لكن في أمور دنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة والتجارة. وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها وأرغبهم في تعريف الخلق بها وأقدرهم على بيانها وتعريفها “.
وقد قال جل من قائل سبحانه ممتناً على عباده بنعمة الدين الخاتم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُلَكُمُ الْإِسْلَام دينًا} [المائدة: 3]. والسلف -رضوان الله عليهم- كانوا يفحصون كل العلوم في ضوء ثوابتهم؛ حتى تلك التي هي في أصلها حيادية ففي علم الفلاحة أخذوا المتعلق بالزرع والبذر والغرس ونحوه ونبذوا مايتعلق بخصائص روحانية مدعاة للنباتات والأغذية على شاكلة روحانية الأفلاك وهكذا في سائر العلوم الحيادية، ولكنهم لم يظهروا أبداً في الكهانة والسحر جاهدين أن يستخلصوا منها منفعة لا تتعارض مع الدين!
ثالثًا: استدلالهم بالقول المشهور: “اطلبوا العلم ولو في الصين”:
وهذا القول من الحكم المتداولة ، ومعناه صحيح ؛ فالعلم يؤخذ من أي مكان، والرحلة في طلب العلم رحلة مباركة ، ولكن لابد من وضع ضابط يضبط “العلم” فليس كل علم يدرس ويؤخذ، بل لابد أن يكون علماً نافعاً صحيحاً، وألا يكون علماً محرماً في ذاته مثل السحر والكهانة والتنجيم، ومن ذلك مايسمى “الماورائيات” التي هي الغيب من غير المصدر الحق والخصائص والطبائع المدعاة للأحجار والأشكال ونحوها، أو السحر، وغير ذلك، أو محرماً لما يجر إليه من مفاسد أو صدّ عن ذكر الله عز وجل، قال بعض أهل العلم: ” واعلم أن علماً لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولايحملك على الطاعة لن يبعدك غداً عن نار جهنم“.
وواقع كثير من هذه العلوم الوافدة لا يخرج عما ذكر إلا قليلاً: فما يسمى بالطاقة وتطبيقاتها وتفريعاتها ما هو على الحقيقة إلا الجهل، وتخرص وضلالات، وإن احتوى على شيء من النفع في أثنائه ،فغالبه مخالف لصحيح النقل ولصريح العقل، فهل بعد هذا يسمى علماً ؟! “إن من العلم جهلاً، ومن القول عياً، ومن البيان سحراً “.
رابعًا: تذرعهم بـ (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها):
وهو كلام حق، ولكنه ليس دليلا على جواز الأخذ بهذه المذاهب أو تطبيقاتها، بل لابد من عرض هذه المذاهب وتطبيقاتها على معنى الحكمة الصحيح في ديننا؛ فما كان موافقاً للكتاب والسنة بفهم صحيح وقياس مستقيم لا بتعسف وتأويل باطل؛ كان حكمة حقاً، وليست الحكمة هي أقوال وأفعال شاعت تسميتها بالحكمة عند من لقبوا بـ (الحكماء الأوائل)من النساك والرهبان، بل وبعض المجاديب!!
فالحكمة ضالة المؤمن حقاً، وسيجدها حتماً في أكمل صورها إذا أقبل على مصادر الحكمة الصحيحة: كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ.
أما الضلالة فليست ضالة المؤمن أبداً، بل هي ما يحذره ويتوقاه، والعبرة بحقائق الأمور لا بالدعاوى القائمة عليها، ولن تكون الضلالة حكمة لمجرد تسميها باسمها وتوشحها بلباسها، فالحكمة ما أثبت النقل الصحيح أو العقل الصريح أنها حكمة حقاً، أما زبالة الأذهان وآراء الضالين وفلسفات المغضوب عليهم فليست حكمة بحال!! ولنا في الصالحين أسوة، قال أبو سليمان الداراني: إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة.
خامساً: قولهم: الأخذ بالأسباب عبادة، وما هذه الأمور إلا أسباب نأخذ بها:
هذه العبارة جزء من قاعدة صحيحة تتمتها (والاعتماد على الأسباب شرك يرق ويغلظ)، فهي كلام حق وقاعدة صحيحة، ولكن لابد من نظر صحيح في الأسباب والمسببات، فقد ضل في هذا الباب كثير من الناس، والمهتدون فيه- باب الأسباب والمسببات- لا يثبتون سبباً إلا إذا ثبت بنقل صحيح أو دل عليه عقل صريح، وهم يقدّمون ما ثبت من الأسباب المشروعة على غيره لإيمانهم وتمام توكلهم على ربهم سبحانه وتعالى، يقول ابن تيمية -رحمه الله- في وصفهم: ” يؤمنون بأن الله يرُدُ بما أمرهم به من الأعمال الصالحة والدعوات المشروعة ما جعله في قوى الأجسام والأنفس، ولا يلفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية أو الشرعية على فسادها، ولا يعملون بما حرمته الشريعة، وإن ظن أن له تأثيرا، وبالجملة: فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب ، أو شرط السبب، في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيراً وقد يظن كثيراً ، وقد يتوهم كثيراً وهماً ليس له مستند صحيح، إلا ضعف العقل“. وقال: “جميع الأمور التي يظن أن لها تأثيراً في العالم وهي محرمة في الشريعة كالتمريجات الفلكية ، والتوجهات النفسانية كالعين والدعاء المحرم والرقى المحرمة، أو النرنيجات الطبيعية -ما يدعى للبدن من الطبائع- ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها، حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالباً إلا أمور دنيوية، فقلّ أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة دع الآخرة. والمخفق من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم، فهي في نفسها مضرة، ولا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادراً ، وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه“ .
والأسباب المدعاة في هذه التطبيقات لا تخرج أكثرها عن كونها أسباباً خفية نهينا عن تتبعها، أو أسباباً شركية محرمة. وما شرعه الله من الأسباب الشرعية وما أباحه لنا من الأسباب التي تعرف بعقل صحيح ومنهج علمي تجريبي يغنينا عن هذه الأسباب، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- عن تأثير بعض هذه الأسباب الخفية: “وقد يكون فتنة لمن ضعف عقله ودينه، بحيث تختطف عقله فيتأله إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين ويكفى أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال، فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه“.
ساساً: تذرعهم ببعض منافع حدثت لهم أو على أيديهم، وقولهم: “ثبت نفع هذه التطبيقات بالتجربة”:
قد يحدث عند الأخذ بهذه التطبيقات منافع لأصحابها بدنية أو نفسية أو روحية، وليس ذلك باتفاق العقلاء كافياً لعدها سبباً فيما حصلكما سبق بيانه، كما ليس مبرراً للأخذ بها، فباب الأسباب والمسببات قد يضل فيه عامة الناس قال ابن تيمية -رحمه الله-: ” تحصيل المنفعة الذي يظن له سبب غير مشروع قد يكون سببه اضطرار المضطر وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له ، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل السبب، وقد يكون فتنة، وإن وافق حصول المطلوب السبب غير المشروع كان فتنة، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون ويعانون، ويرزقون، من دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها، قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] وأسباب المقدورات أمور يطول تعدادها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة“. كما أن الشيطان يزين الباطل ويجمله بمايظهره نافعاً، وقد يحقق بأسباب الباطل نفعاً ظاهراً، ومن ذلك ما بينه ابن مسعود -رضي الله عنه- في قصته مع امرأته عندما كانت تجد النفع عندما تتداوى بغير المشروع لمرض عينها فتبرأ فقال لها: “إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقيتها –يقصد رقية غير شرعية- كفّ عنها، إنما يكفيك أن تقولي: أذهب البأس رب الناس اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً“.
ثم إنه لابد لإثبات النفع من منهجية علمية، وفهم دقيق لقانون السببية، فليس الاقتران الذي يحدث بين حصول نفع وتطبيق أمر ما كافياً للقول بأنه سبب في حدوثه، قال ابن تيمية -رحمه الله-: ” أن الشيطان زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعاً ولا وصفاً؛ فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزين لهم“.
كما أن مقياس النفع عند المسلم لا يجعله في النفع الدنيوي المجرد، فعقيدته في اليوم الآخر تجعل بعض النفع الدنيوي البحت ليسنفعاً إلا إذا لم يكن له ضرر ديني. لهذا بين ابن تيمية يرحمه الله أن الذي ثبت نفعه حقاً بالتجربة هو الدعاء المشروع فقال: ” دعاء الله وحده ولا شريك له دل الوحي المنزل والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته، ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله، فتجد المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية في حقهم، فأحدث الله لهم تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه، على وجه يوجب العلم تارة والظن الغالب الأخرى“.
وثمة أمر آخر هو أنه ليس كل ما فيه نفع يكون الأخذ به مباحاً، فالنفع ليس ميزان القبول والرد، وإنما شرع الله هو الميزان فمن المعلوم أن السحر الذي قد يؤدي قطعا لحصول نتائج بعضها مطلوب ومنافع دنيوية متيقنة عند أصحابه محرم في الشريعة ، وكذا الخمر والميسر. فعماد ذلك التفريق بين القدر الكوني والقدر الشرعي قال ابن تيمية -رحمه الله- : “أمور قدرها الله قدرا كونيا وهو لا يحبها ولا يرضاها وتكون فتنة لبعض خلقه ومن ذلك الأسباب المحرمة المحصلة لنفع ما فإن الأخذ بها موجب لعقابه وسخطه، بينما الأمور التي قدرها الله قدرا شرعياً فهو يحبها ويرضاها كالدعاء المشروع والصلاة والصيام ونحوه“.
سابعاً: تذرعهم بدعوى (الأسلمة) فيقولون: نحن (نُفلتر) هذه الوافدات وننقيها، ونأخذ الصحيح منها مع الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث:
لابد أن نفرق بين ما يمكن (أسلمته) وبين ما لا يمكن، فلا يقول عاقل مسلم بأننا يمكن أن نؤسلم النصرانية، واليهودية، والبوذية، والطاوية، ويمكن أن ننقي عقيدة التثليث من الدخن، ونقبل من عقيدة التثنية بعض تطبيقاتها، ولا يقول: نقبل الماسونية لكونها تتضمن دعوة للإخاء والمساواة والحرية ونحاول تنقيتها!! وإنما الحق أن نرفضها كلها على الرغم مما تتضمنه من حق أو نفع ونأخذ الدعوات الطيبة التي تنتحلها وتتضمنها من مصادرها الأصلية نقلية أو عقلية.
فالعقائد المنحرفة والتطبيقات المبنية عليه ترفض ولا يقبل فيها ترقيعاً وإنما ترفض كلها ويؤخذ الإسلام الصافي. بخلاف العلوم العامة الحيادية في أصل منطلقها كعلم النفس والإدار، وكالأدوات والتقنيات الحياتية كالفضائيات والشبكة العنكبوتية فنستطيع الاستفادة منها فنستفيد من تقنية البث المباشر مثلاً لبث فكر ومنهج الإسلام وفق ضوابطه، كما نستطيع الإفادة من نظريات الإدارة وتقنيات الإقناع في الخير وفق منهجنا ومن منطلق غايتنا؛ فنرفض ما يخالف الدين منها، ونقبل ما لا يتعارض مع الدين، فيكون مما يرفض مثلاً في تقنيات الإدارة النظريات والطرق التي تقود لعبودية المرؤوسين للرؤساء، أو وسائل الإقناع والتأثير التي ينتج عنها التغرير بالمستهلكين وخداع المفاوضين وغير ذلك، ولهذا ينادي كثير من العلماء المسلمين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيره بما أسموه (أسلمة المؤسلمين) لما رأوا من جرأة في الاستدلال بالنصوص على غير مرادها الحقيقي وما يتبعه من تسويغ للضلالات بحجة (الأسلمة) .
وقد سعى كثير منهم –جزاهم الله خيراً- إلى النظر ببصيرة في الأفكار والنظريات الوافدة بعين التأصيل الصحيح لا (الأسلمة المتعسفة)، فما كان منها له أصل في ديننا حقيقة أخذوا الأصل وأبرزوه وقعّدوا قواعده، وما لم يكن له أصل نظروا فيه وفرقوا بين ما لم يكن متعارضاً مع الدين، وبين المعارض المخالف له .
والناس من القديم يغترون ببعض الحق المبثوث في الباطل وينخدعون به، فينبري له بعض المتحمسين ثقة بقدرتهم على استخلاص الحق أو أسلمة الباطل، كما حدث مع الأفكار الوافدة من المنطق اليوناني من قبل، قال ابن تيمية -رحمه الله-: “كتب المنطق اليوناني فيها من الباطل والضلال شيء كثير ، ومن المسلمين من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم الفلاسفة، ومنهم من لم يقصد اتباعها ولكن تلقى عنها أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره. وكثير منها تخالفه وتخذله مثل أهل الكلام .ومنهم من أعرض عنها إعراضًا مجملاً، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع فهذا حال كثير من أهل الحديث والفقه “، والصواب أن يجاهدوا الجهاد المشروع، وينصحوا بنبذ الباطل والإقبال على المنبع الصافي من كتاب الله
وسنة رسول الله.
ثامناً: قولهم: إنما الأعمال بالنيات، ونحن لو طبقنا تطبيقات غير مشروعة أو شابهنا أهل الجحيم في شيء فنحن لا نقصد ذلك ولا نريده فلن تضيرنا مشابهتهم:
الحديث المستدل به صحيح ولكن الاستدلال خاطئ والقياس فاسد. فمن المعلوم أن قوام الأعمال على النيات المنعقدة عليها، وأمر النية خفي يحتاج إلى صدق وبصيرة، كما أن العلاقة بين أعمال القلوب وعلى رأسها النية وبين الأقوال والأفعال الظاهرة قد لا يفهمها كثير من الناس، فعلى سبيل المثال لا يقول عاقل بأن كلمة الكفر أو مقارفة أعمال الشرك –من غير إكراه– أمر سائغ جائز إن لم تصاحبه نية الكفر والشرك. فالقول بهذا يفتح بوابة الشرك على مصراعيها وينصر القول الشعبي البدعي: ” المهم مافي القلب، والظاهر قشور“!، وقد كان عند بعض المشركين نية حسنة عندما عبدوا غير الله وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فهل قُبل عملهم الشركي على أساس نيتهم الحسنة؟.
إن أعمال الظاهر من أقوال وأفعال لها أهميتها وأحكامها في الشريعة، كما أن للباطن وأعمال القلوب أهميتها وأحكامها، ومن هنا كانت أهمية اعتبار فهم السلف الصالح للنصوص وتطبيقهم لها حتى لا تشتبه الأمور، لا سيما مع هوى النفوس ورين القلوب، فتقود إلى خلاف ما تدعو إليه النصوص الكريمة في حقيقتها، ولا ننسى أن معظم أهل البدع قد استخدموا النصوص بأفهامهم السقيمة للتدليل على بدعتهم.
تاسعاً: قولهم: أفتى بجوازها بعض أهل العلم ويدرب على تطبيقاتها بعض من ظاهرهم الصلاح والله حسيبهم:
لرد هذه الشبهة لابد أن نتذكر فردية التبعية بين يدي الله سبحانه وتعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] فكلٌ يؤخذ منه ويُردّ إلا المعصوم ﷺ، كما نتذكر أنه ﷺ كان يحذر من المضلين، وقد يكون هناك مضلون وإن لم يكن إضلالهم عن سبق قصد ونية سوء، وإنما ضلوا هم فأضلوا من بعدهم.
فكثيراً ما يلبس الباطل لبوس الحق فيخفى على الناس ويشتبه عليهم، وقد دخل سابقاً كثير من أهل العلم والصلاح في متاهات المنطق، ودروب التصوف الغالي وغيره؛ فمنهم من هلك في تلك الدروب، ومنهم من رجع وتاب، ومنهم من نجا ولكن ببعض اللوثات.
ثم إن الفتاوى لا تحلل حراماً ولا تحرم حلالاً، وإنما تبين الحكم في ضوء تصور المسألة. ومسألة هذه المذاهب وتطبيقاتها إلى الآن مشتبهة عند أكثر الناس، وملتبسة متلونة، مما أخّر صدور فتوى موحدة بشأن هذه الوافدات من الجهات الموثوقة للفتيا.