لماذا َتنْزعُ “مُدربةٌ” الحجاب؟

المشاهدات : 2,055

قد يستفز عنوان هذه المقالة المقتضبة بعض القراء، ويصفونه بالتعميم الجائر أو الاتهام بالعموم، وليس الأمر كما يظنون، بل هو وصف لحالة استثنائية أردتُ التوصل من خلالها إلى ظاهرة أوسع وأخطر بكثير.

فعندما يشهدُ المجتمع المسلم المحافظ تحوّلا ظاهريًا مستنكرًا لشخصياتٍ معروفة لها حضور إعلامي متزايد، ويعبرون عنه- أحيانًا- بـ”الانتكاسة” الدينية، يبعثُ ذلك المشهد الخوف في نفوس الغيورين، ويلجؤون إلى مناصحة هؤلاء المتحولين بمناقشة “الأحكام” التي تنازلوا عنها أو انتهكوا حرمتها، ولكن هذا النصح -في الحالات المعنية هنا- لن يُجدي في الغالب، لأن الإشكالية عند هؤلاء ليست في خضوعهم للأهواء المجردة أو تأثرهم بالشهوات الدنيوية فحسب، وإنما هو انحراف ممنهج متجذر، ناتج عن قناعات ومعتقدات تم بناؤها -أو تحطيمها- على مدى سنوات طويلة بطرق باطنية ملتوية. ولذلك فإن معالجة هذه الظاهرة، أو على الأقل فهمها، ليس مرتبطًا بالنتائج المرئية أمام الناس فقط، بل بالأسباب الباعثة لتلك التصرفات والسلوكيات المُنكرة.

  ولستُ أزعم -في هذا المقام- أني سأتناول ظاهرة الانتكاس الديني بعمومها، فأسبابها متنوعة متفرعة قد تمت معالجتها في كتابات ومقالات كثيرة، ولكني سأخص منها ما يتعلق بساحة “التدريب” وما يتبعه، فلها خصائص محددة، وأسباب خطيرة تتميز بها عن غيرها.

يعتبر مصطلح “التدريب” إطلاقٌ فضفاض –برأيي -قد يصل إلى الاستعمال المجازي في كثير من الأحيان، لأن التيار الذي نتحدث عنه أوسع بكثير من الدورات التدريبية أو الجلسات العلاجية “البديلة” والاستشارات النفسية، فهو منظومة فكرية وعقدية غزت العالم الإسلامي تحت ستار التدريب والاستشفاء أول الأمر، ثم بدأت تكشف عن مآربها وأهدافها الإلحادية تدريجيًا. وما قد يوصف بأنه “دورة تدريبية” -أحيانًا- لا يخرح عن كونه تلقين فلسفي عقدي يلبّس على المتلقي بالمصطلحات الدينية أو العلمية ليمرر المبادئ “الروحانية” الباطنية دون مقاومة تُذكر. ولذلك فإن بعض من يُطلق عليه “مدرب” أو “مدربة” لاعتبارات واحترازات نظامية، قد لا يكون سوى معلم “روحاني” ينشر تعاليم “أوشو” و”ديباك تشوبرا” و”إيكهارت تولي” وغيرهم من رموز الإلحاد الروحي والباطنية الحديثة. وهذا وإن كان -بلا شك -ليس حال كل مدرب ومدربة، لكنه حال ثلة نشطة انحرفت عن الجادة، واتخذت من التدريب منفذًا لبث أفكارها.

فلماذا تنقلب أحوال هؤلاء ويكثر في صفوفهم التلون الديني والتفلت الأخلاقي؟ 

قبل الإجابة عن الأسباب التي تقبع خلف هذه الظاهرة المؤسفة، والتي شكلت صدمة لكثير من المراقبين والأتباع، لا بد من توصيفها للقارئ الذي لم يشهد هذه التحولات، وليس لديه تصور للبواعث التي دفعتني لكتابة هذا المقال.

فمن يتأمل حال “المعلمين الروحانيين” الذين يُطلق عليهم -أحيانًا- “مدربون” أو “معالجون” أو “مستشارون” في السنوات الأخيرة يلحظ تغييرًا ملموسًا في السمت الخارجي والسلوك الظاهري لكثير منهم، وأنا لا أتحدث عمن دخل هذا المجال ممن لم تظهر عليه علامات الصلاح ابتداء، وإنما أقصد من كانوا أئمةً للمساجد وحفظة لكتاب الله دعاة إليه، أو من يحملون شهادات عليا في تخصصات شرعية دقيقة، أو من كانوا يتقلدون مناصب القضاء في المحاكم الشرعية مثلًا.

حيث بات بعضهم يجاهر بجلوسه في مجالس مختلطة تعلوها نغمات الطرب والغناء وقهقهات النساء، أو سفره للدول الأوروبية في صحبة فتيات سمتهن التبرج والسفور، ومنهم من أصبح ينتج “ألبومات” غنائية بعد أن كان صوته يصدح بالقرآن، ومن نسائهم من نزعت الحجاب عن رأسها بعد أن كانت تستره، أو حتى كانت ترتدي النقاب، فأصبحت تظهر في وسائل الإعلام حاسرة الرأس بكل جرأة، بل تنكر بعضهن مشروعية الحجاب من أصله، فضلًا عن تهاون بعضهن في مسائل الطهارة والصلاة. نسأل الله العافية والثبات على الحق حتى نلقاه.

هذه بعض المظاهر المؤلمة التي أصبحنا نشاهدها بشكل متكرر عند الذين يتبنون الأفكار “الروحانية” ويسعون جاهدين بكل الوسائل المتاحة لنشرها بين أبناء وبنات المسلمين. ولكنها -في الحقيقة- ليست مُستغربة، بل هي متوقعة بناء على المنظومة الفكرية التي ينطلقون منها، وهذا ما يوصلنا لمحاولة فهم الجذور العقدية التي أدت لهذا الانحراف السلوكي الممنهج.

 ورغم أن الفكر الذي يتبناه هؤلاء، والمبادئ التي يروجون لها أخطر بكثير من نزع إحداهن الحجاب أو عزف أحدهم على الآلة الوترية أو الناي، إلا أن خطورة تلك الأفكار تخفى على كثير من عوام الناس، وإنما يستشعرونها عندما يرون آثارها السلوكية التي يستنكرها كل مسلم سوي.

 ولأجل توضيح الارتباط الحتمي بين الفكر والسلوك، أوجز بعض أسباب الانحراف السلوكي لدى أتباع الباطنية الحديثة -حسب ما أراه- فيما يلي:

١ -الانحراف في فهم النص الشرعي، والتزهيد بمنهج السلف وأسبقيتهم في فهم النصوص. وهو ما أدى إلى تغييب مدلول النص، وما يترتب على ذلك من التحرر من الأحكام الشرعية بحجة القراءات الجديدة والفهم الحديث.

٢- التزهيد بالقامات الدينية والقدوات الاجتماعية، كالعلماء والمعلمين والوالدين، ونشر ثقافة التحرر من “التبعية” و”البرمجة”، والحث على تحطيم “الأصنام” الفكرية، فيبقى كل إنسان معيار نفسه بلا ضابط ولا قيد.

٣- استبدال القدوات المعتبرة شرعًا بشخصيات مشبوهة دخيلة على المجتمع، فضلًا عن تعظيم شأن رموز الباطنية الحديثة ممن يروجون لمبادئ ومعتقدات تهدم كل معتقد ديني “تقليدي” وتستبدله بانحلال عقدي وتحرر من “قيود” العبودية.

٤- التأكيد على الاستقلالية الذاتية في الفكر والرأي، وعدم الالتفات لآراء الآخرين أيًا كانوا، مع التنفير المتكرر من النصيحة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما أدى إلى عزلة فكرية للمتأثرين حيث لا يلتفتون لأي ناصح مشفق، ويعتبرونه متطفل يتدخل في شؤون الآخرين، مما يقلص فرصة سماع الحق واتباعه.

٥- التركيز الشديد على “حب النفس” وتقديمها على كل ما سواها، وصل ببعضهم إلى حالات من النرجسية المرضية، وغياب معاني التضحية والإيثار والصبر، فكانت أولويات كثير منهم إرضاء النفس وإشباع شهواتها دون الالتفات للحكم الشرعي فضلًا عن العرف الاجتماعي.

٦- قتل “النفس اللوامة”، واعتبار “التأنيب” مرحلة منخفضة من “الوعي” يجب أن يتجاوزه السالك الروحاني، وهو ما أغلق باب التوبة الذي يبدأ بالندم على ارتكاب الذنب. قال عليه الصلاة والسلام: [الندم توبة] أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.

 ٧- التهوين من الشعائر الظاهرة واعتبارها من القشور، ووصف من يحرص عليها بالنفاق والمراءاة أحيانًا، وهو ناتج عن التأثر بعقيدة وحدة الأديان، والاعتقاد باتفاق جميع الأديان في جوهرها الباطني. ولا شك أن امتثال الأمر الرباني في الظاهر والباطن من أسباب الثبيت، قال تعالى: (ولـَوْ أَنـَّهـُمْ فـَعـَلـُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتا) النساء: ١٦٦.

٨- تعظيم فلاسفة الصوفية كابن عربي والحلاج والرومي، والعمل على إحياء تراثهم الذي يتفق مع مبادئ الباطنية الحديثة، ومن المعلوم قول غلاة الصوفية بسقوط التكاليف عمن يصل لدرجة عالية من الولاية، أو “الوعي” بالتعبير الروحاني المعاصر.

٩- التنفير من الخوف لكونه من صفات الأشخاص ذوي “الوعي” المنخفض، والتأكيد على النهج الصوفي الذي يقرر عبادة الله بالحب، وهو ما يؤدي إلى التساهل في ارتكاب المحظورات الشرعية دون التخوف من بطش الرب جل جلاله.

١٠- تضخيم الثقة بالنفس والتعويل عليها، وتغييب معاني التوكل والتعلق بالله والافتقار إليه، فهذا سبب لأن يوكل الإنسان إلى نفسه فيوكل إلى ضعف. عن أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ] أخرجه الترمذي والإمام أحمد وصححه الألباني. ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم كما أخبر تبارك وتعالى عن قولهم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) آل عمران: ٨.

١١- الارتباط بالمؤسسات والأكاديميات المشبوهة، التي تبث الأفكار الباطنية بشكل صريح لخواص الأتباع والتلاميذ، والذين يبدو عليهم أثر التهوين من الشعائر الدينية.

ولا شك أن فتنة المال والشهرة من أقوى محفزات الهوى، ومغذيات الانحراف عن جادة الاستقامة.

كل هذه الأسباب -وغيرها- تعمل على تغيير المعتقدات الدينية ومنظومة القيم لدى الفرد المسلم، فيصبح جريئًا على حرمات الله، لا يلتفتُ لنصيحة مشفق أو توجيه خبير.

ولعل هذه التجاوزات الظاهرية المتكررة من المتأثرين بالأفكار الروحانية الحديثة كفيلة بإيقاظ قلوب الغافلين عن خطر هذا التيار الباطني، الذي يحمل في طياته بذور الكفر والإلحاد، فينهضون لمقاومته وكشف خطورته كل بحسبه، فرب ضارة نافعة، والله أعلم.

يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأعذنا من الحور بعد الكور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكاتبة: د. هيفاء بنت ناصر الرشيد

 

١٤٣٨هـ

 

الأرشيف

إلى الراقصين مع الحياة..
وقفات مع تحدي “تشارلي”
القائمة