أ. سعاد السقاف و د. ريم الطويرقي – قسم الفيزياء – جامعة الملك عبدالعزيز
بين العلوم الحقيقية والعلوم الزائفة وفي غياب الحدود الواضحة بينهما لعامة الناس، تطفو الكثير من الأمور المشتبهة ويتبناها البعض على حساب البعض الآخر. في هذا المقال سنتطرق لأحد هذه الأمور وسنحاول من خلاله الإجابة على سؤالين:السؤال الأول: هل جسم الإنسان يبعث طاقة؟السؤال الثاني: هل للإنسان هالة؟ وهل تم تصويرها؟
هل جسم الإنسان يبعث “طاقة”؟ معنى الطاقة فيزيائيا، بتعريفها المبسط، هي القدرة على القيام بشغل ما، وهذا التعريف يتوافق مع ما جاء في القرآن الكريم حيث ذُكرت كلمة “طاقة” مرتين في سورة البقرة. ويمكن أن توجد الطاقة بأشكال مختلفة، مثلا ميكانيكية أو كيميائية أو كهربائية أو مغناطيسية أو إشعاعية أو نووية، وغيرها من الأنواع. من الحقائق العلمية أن جسم الإنسان وأي جسم آخر طالما له درجة حرارة – أي أعلى من الصفر المطلق والذي يقابل 273.15 تحت الصفر درجة مئوية- فإنه يمتص ويبعث أشعة كهرومغناطيسية، إذا لنقتصر الحديث على الطاقة الإشعاعية لأنها الموجودة في الموجات الكهرومغناطيسية. تخزن الأشعة الكهرومغناطيسية الطاقة في مجاليها الكهربائي والمغناطيسي، وعندما يمتص جسم الإنسان إشعاع كهرومغناطيسي سواء من الطيف المرئي (أي ألوان الطيف التي يمكن أن نراها) أو أي طيف آخر غير مرئي (لا يمكن رؤيته مثل الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية أو المايكروويف الخ) فإنه يمتص طاقة، تتسبب هذه الطاقة في إثارة الذرات المكونة للجسم، تنتقل الالكترونات داخل الذرات من المستوى الأرضي إلى مستوى أعلى، وعند عودتها للمستوى الأرضي تطلق فوتونات بترددات تقع ضمن جزء من طيف الأشعة تحت الحمراء يعرف بالأشعة الحرارية، وتسمى الحرارية لأن ترددها يتوافق مع التردد الطبيعي للجزيئات في معظم المواد فيتذبذب الجزيء بأكمله فتكثر التصادمات بينها مما يسبب ارتفاع درجة حرارة الجسم، ونتلمس هذه الأشعة الحرارية بسخونة جلد الإنسان.
إذا جسم الإنسان يبعث أشعة حرارية فهل لهذه الأشعة أي دلالة؟ وهل يمكن رصدها وتصويرها؟يتناسب مقدار هذه الأشعة الحرارية مع ثلاثة عوامل: درجة حرارة الأجسام، مساحتها وخصائصها الفيزيائية. عند درجات الحرارة المنخفضة فإن الجسم يبعث موجات كهرومغناطيسية غير مرئية في المدى تحت الأحمر، وعند ارتفاع درجة حرارة الجسم لدرجات عالية، يبعث الجسم أشعة بترددات أعلى من الأشعة تحت الحمراء ويمكن أن تصل لنطاق الطيف المرئي كما يحدث في الشمس (درجة حرارة سطح الشمس 5500 درجة مئوية). مثال على ذلك تسخين قطعة معدن (مثل عين البوتوغاز) فابتداء نراها سوداء ونشعر فقط بحرارتها (هذه هي الأشعة تحت الحمراء وهي غير مرئية) ثم تبدأ بالتوهج فيصبح لونها أحمر ثم البرتقالي ومع زيادة التسخين قد تصل للون الأبيض (أشعة مرئية)، انظر الشكل 1.
شكل 1
في موضوعنا المتعلق بجسم الإنسان تبقى الأشعة المنبعثة في نطاق الأشعة تحت الحمراء ذات التردد المنخفض حيث أن جسم الإنسان يعتبر باردًا نسبيًا، أي لا يمكن أن يشع الإنسان ضوءًا مرئيا إلا إذا وصل تسخينه لمثل درجة حرارة الشمس! يمكن أخذ صورة للجسم باستخدام الكاميرا الحرارية (Thermographic camera) التي تستخدم الأشعة تحت الحمراء لتكوين الصورة بدلا من الأشعة المرئية كما هو الحال في الكاميرات العادية. الصور الناتجة تميز بين المناطق الباردة والدافئة بدلالة شدة الموجة الكهرومغناطيسية المرصودة وخفوتها في الكاميرات أحادية اللون أو عن طريق اختلاف الألوان في الكاميرات الأخرى، والتي تعطي للأشعة الحرارية “غير المرئية” ألوان افتراضية للتوضيح باستخدام برامج حاسوبية، فالأبيض يدل على المناطق الدافئة, الأحمر والأصفر للمتوسطة، والأزرق للمناطق الباردة (شكل 2). وللكاميرات الحرارية استخدامات متعددة في المطارات وعمليات الإطفاء والبحث عن الأشخاص المفقودين.
شكل 2
استخدم البعض حقيقة هذه الأشعة الحرارية المنبعثة من جسم الإنسان في محاولات لتفسير ما يزعمون أنها هالة الطاقة (أو هالة كيرليان) والتي يزعمون أنها تخرج من الإنسان، فهل هناك علاقة بينهما؟ لذا سنوضح فيما يلي ما مصدر الهالة المزعومة وكيف يمكن تصويرها وتفسير ذلك.
هل لجسم الإنسان هالة “طاقة”؟ وهل يمكن تصويرها؟ من الادعاءات القائمة أن هناك هالة من الطاقة تحيط بجسم الإنسان (Aura) وأن حجمها ولونها يتغير وفقًا لصحة الشخص النفسية والعضوية كما يمكن التنبؤ من خلالها عن بعض الأمراض أو احتمالية الإصابة بها مستقبلًا! الحقيقة أن هناك الكثير من الغموض حول ماهية هذه الطاقة وطبيعتها وكيف يمكن قياسها حيث أن جميع التفسيرات المطروحة حاليًا غير قابلة للقياس والاختبار وفق المنهج العلمي، لكن ما سنتطرق له في هذا المقال هو جهاز تصوير هالة الطاقة ويعرف بـ”كاميرا كيرليان” والذي يستخدم في محاولة إثبات وجود الهالة.قبل البدء في شرح آلية عمل كاميرا كيرليان، لنوضح مبدأ التفريغ الكهربائي. ما منا من أحد إلا وقد شعر في بعض الأحيان بتلك اللسعة الكهربائية عند مسك مقبض الباب أو شخص آخر. يمكن رؤية تلك الشرارة في شكل 3. فكيف تحدث هذه الشرارة؟
شكل 3
من فضل الله علينا أن الهواء الذي يحيط بنا يُعدّ عازلا كهربائياً وإلا لكنا نصعق بالكهرباء في كل حين! ومعنى أن الهواء عازل كهربائي، أي أن الذرات المكونة له متعادلة كهربائيا ولا توجد به الكترونات حرة أو أيونات، وتحت ظروف معينة يمكن أن يتحول الهواء إلى وسط موصل للكهرباء إذا استطعنا نزع إلكترونات من ذراته ليصبح لدينا الكترونات حرة وأيونات، هذه الإلكترونات الحرة يمكن أن تشكّل تيارا (الشرارة). لا يحدث هذا الأمر بسهولة لكن يتطلب قوة كبيرة لتفكيك جزئيات الهواء وتأتي هذه القوة من وجود ما يعرف بفرق الجهد. إن كان فرق الجهد كبير سوف ينزع الإلكترونات من جزيئات الهواء ويصبح الهواء موصلا كهربائيا فتسير الإلكترونات من الجزء ذا الجهد الأعلى (الإصبع المشحون بالشحنات) إلى الجهد المنخفض (المقبض). تُسمى هذه العملية بالتفريغ الكهربائي.التفريغ الهالي (من هالة أو طيف) هو تفريغ كهربائي يحدث عند تأين ذرات الوسط المحيط بالموصل عند تحفيزه كهربائيا بتطبيق جهد عال. ويحدث التفريغ عند مرور تيار كهربائي من قطب ذو فولتية عالية إلى الهواء (الوسط) فتتأين ذرات الهواء مكونة منطقة من البلازما حول القطب الكهربائي (البلازما عبارة عن أيونات موجبة والكترونات حرة). يأتي التوهج نتيجة إعادة اتحاد الالكترونات مع الأيونات الموجبة لتشكيل ذرات متعادلة، عندما يعود الإلكترون لمستوى الطاقة الطبيعي يطلق فوتونات تعمل على تأيين ذرات أخرى.يوضح شكل 4 تفريغ كهربائي لغازات مختلفة، وينتج عن ذلك ظهور طيف الغازات، ويمكن ملاحظة أن لكل غاز لون يميزه يعود لتركيبه الذري، أي أن كل لون هو كالبصمة للمادة التي يخرج منها.
شكل 4
تستخدم كاميرا كيرليان (Kirlian Photography) لتصوير الهالة المزعومة، وهي طريقة تصوير اكتشفها الروسي كيرليان في عام 1939 م وسُميّت باسمه. للتعرّف على المبدأ الأساسي للجهاز يمكن النظر في شكل 5. يتكوّن الجهاز من مصدر فرق جهد عالي وقطب كهربائي وفيلم تصوير ولوح زجاجي يوضع تحته شريحة معدنية موصلة للكهرباء. يوضع الجسم المراد تصويره بين القطب الكهربائي وفيلم التصوير. بتشغيل الدائرة الكهربائية يُشحن الجسم بالشحنات الكهربائية فيحدث تفريغ كهربائي بين الجسم المشحون والشريحة المعدنية فيلتقط الفيلم الشرارة الناتجة كصورة أو يرسلها لجهاز كمبيوتر.
شكل 5
يوضح الشكل 6 صورة لإصبع شخص باستخدام طريقة كرليان. (http://webspace.webring.com/people/gl/lemagicien/kfpage/kfgalery/gal.html)، ويمكن ملاحظة أن الصورة الأولى أخذت عند وضع فرق جهد مقداره 15 VDC والصورة الثانية عند فرق جهد 30 VDC ، أي أن الهالة الناتجة عن التفريغ الكهربائي تعتمد على مقدار فرق الجهد المستخدم. ونقطة أساسية يجب توضيحها وهي أن الكاميرا لم تصور طيفا خارجا من الإصبع (هالة) ولكن صورت طيفا نتج من شحن الإصبع بمصدر كهربائي خارجي ثم التقطت تفريغ الهواء بين الإصبع المشحون والشريحة المعدنية.
شكل 6
ولا تقتصر طريقة التصوير على الكائنات الحية ولكن يمكن تصوير الجمادات أيضا بطريقة كرليان. يوضح شكل 7 صورة كارليان لمشبك الورق الخالي من الحياة.
شكل 7التفسير الفيزيائيتظهر الهالة المأخوذة بكاميرا كيرليان باختلافات عشوائية في اللون والشكل ويرجع سبب هذه الاختلافات للعوامل والظروف الطبيعية المحيطة بالجسم المراد تصويره أثناء أخذ الصورة ونذكر منها:
- في الهواء يبدو التفريغ عادةً كتوهج أزرق أو أبيض مزرق نتيجة إثارة ذرات النيتروجين الموجودة في الهواء.
- في حالة المجال الكهربائي المنخفض نوعا ما، يظهر لون أحمر أرجواني نتيجة تأين وإثارة ذرات النيتروجين وأكسيد النيتروجين NO الموجودة في الهواء.
- تظهر ومضات صفراء في هالة التفريغ نتيجة وجود ذرات صوديوم Na من ملح كلوريد الصوديوم NaCl على سطح القطب الكهربائي. (كلوريد الصوديوم أحد الأملاح الموجودة في عرق الإنسان).
- تطاير ذرات كربون من الأقطاب الكهربائية قد يزيد من ظهور اللون الأحمر أو الأصفر.
- تعتمد السعة الكهربائية للجسم على شكله، كما تعتمد مقاومته الكهربائية على مقاومة الجلد، لذا فإن أي تغير في السعة الكهربائية أو المقاومة يؤدي إلى تغيير توزيع الفولتية المستخدمة وبالتالي تتغير الصور الناتجة.
- التغييرات في مقاومة الجلد خلال أخذ سلسلة من الصور تجعل الصورة تتغير تباعا، فلا يوجد ثبات في الصور.
- اختلاف أنواع الأفلام المستخدمة (الأفلام الشفافة وغير الشفافة وكيفية توزيع الأصباغ بين الطبقات في الأفلام الملونة)، فعند استخدام الأفلام الملونة المستقطبة فإن الصورة ستظهر باللونين الأزرق والأبيض فقط.
- مدى نظافة الأصابع ورطوبتها، فالإصبع العادي ينتج صورة مختلفة تماما عن صورة لنفس الإصبع تم تنظيفه بالكحول أو الأسيتون أو الإصبع الرطب باللعاب أو العرق.
- نسبة الرطوبة في الغرفة.
- ينبغي على الشخص المراد تصويره ألا يكوّن دائرة كهربائية مغلقة، أي أن يكون معزولا عن الأرض حتى لا يصاب بصدمة كهربائية وبالتالي فإن نوعية باطن الحذاء الذي يرتديه الشخص أثناء التصوير أو العازل الذي يقف عليه يمكن أن يسبب تغييرات في الصورة.
- تختلف الصورة التي يتم التقاطها أولا عما إذا التقطت خلال أو نهاية سلسلة من الصور، فعند إرسال نبضة كهربائية واحدة يحدث توهج عشوائي لمناطق معينة في الصورة، أما عند إرسال عدة نبضات فإن الزمن بين كل نبضة وأخرى يتيح للأيونات أن تتحد من جديد وبالتالي تتوهج نقاط جديدة في الصورة، كما أن تنظيف الإصبع تدريجيا خلال التصوير يجعل الصور أكثر كثافة.
ومن الجدير بالذكر أنه إذا تم استخدام كاميرا كيرليان في الفراغ – حيث لا يوجد غاز يمكن أن يتأين- فلن تظهر لدينا صورة إطلاقًا!
نجد أخيرا أن هالة الطاقة التي يزعمون تصويرها ما هي إلا تفريغ كهربائي للوسط المحيط بالجسم المصوّر، وأن شكلها وألوانها ، التي يُدّعى بأن لها دلالات تتعلق بمشاعر الإنسان وحالته الصحية والمعنوية واستخدامها في التنبؤ والتشخيص والعلاج، ليست إلا نتيجة عوامل فيزيائية بحتة تتأثر بعوامل عديدة في المحيط يمكن التلاعب والتحكم بها. لذا لا يمكن الاستناد عليها في الحصول على معلومة صحيحة ثابتة قابلة للتكرار.
ختاما، إن كانت الهالة المرصودة من كاميرا كيرليان يؤثر فيها عدد كبير من العوامل ولا تُظهر ثبات عند التكرار، فكيف يمكن الاعتماد عليها ومن ثم ربطها بالحالة النفسية أو المرضية.
المراجع :
- Paul G.Hewitt. Conceptual Physics Fundamentals, San Francisco, United States, Pearson Addison Wesley, 2008.
- David G.Boyers, William A.Tille, Corona discharge photography, Department of Materials Science and Engineering, Stanford University, Stanford, California 94305. 17 January 1973.
- kipedia.http://en.wikipedia.org/wiki/Thermographic_camera#Theory_of_operation , http://en.wikipedia.org/wiki/Corona_discharge
- http://astarmathsandphysics.com/ib-physics-notes/thermal-physics/ib-physics-notes-radiation.html
- http://electronics.howstuffworks.com/gadgets/high-tech-gadgets/nightvision1.htm
- https://www.ph.utexas.edu/~coker2/index.files/kirlian.shtml
- http://www.quackwatch.org/01QuackeryRelatedTopics/kirlian.html
- http://www.skepdic.com/kirlian.html