الكاتبة : هناء بنت حمد النفجان – ١٤٤٠ هـ
تتكرر كثيراً كلمة (الاختيار) في الطرح الحديث لما يسمى [بتطوير الذات] فيتردد عبارات مثل:
السعادة اختيارك..
واقعك من اختيارك..
مستقبلك من اختيارك..
الحياة اختيار شخصي..
ويقصد بها معنى فلسفي خطير، قد يلتبس على البعض مع الاستخدام الصحيح للكلمة في الاختيار (المحسوس) من متعدد، كاختيار الطعام واللباس والوظيفة ونحو ذلك، أو اختيار سلوك طريق الهداية وطريق الضلال من خلال السعي في أسبابها، فيظنون أنها من نفس الباب، ويحاولون التدليل عليها من هذا المنطلق الواضح.
والأمر ليس كذلك، فالاختيار ليست كلمة عادية في السياق الفلسفي، ولا تتعلق بالاختيار بين الأسباب المادية المحسوسة، وإنما تتناوله من جانب فلسفي يشرح كيف يتم تشكل القدر بناء على تصرفاتك ومشاعرك! وهذا مبدأ أساسي في الروحانية الحديثة وفي البوذية قبلها، وهو من القوانين التي يرتكز عليها طرح أصحاب الفكر الباطني، أمثال الطبيب الهندوسي (ديباك تشوبرا) ومن سار على دربه.
وبابها في كتب العقيدة هو (مراتب القدر) -كما سيأتي-
أما هذه الفلسفة التي بدأت تطل بعنقها بين أبناء المسلمين، فهي تقوم على اعتقاد أن الأقدار عبارة عن موجات من الأفكار المنبثقة من حقل موحد، يحتوي على احتمالات عمياء لا محدوة، وما على الإنسان إلا اختيار أنسبها له ليتشكل في واقعه.
ومشاعره وميولاته وتفكيره هو من يحدد هذا الاختيار فالاختيار اختياره وهو صانع قدره.
وهذا مبدأ فلسفي شائع بين أتباع الروحانيات الشرقية والتيارات الباطنية، التي تعتبر الواقع وهماً وأن الحقيقة الوحيدة هي الفكر، وهي ترجمة للعقيدة الإلحادية المعروفة بـ(وحدة الوجود) واعتقاد أن المبدأ الأول ليس إلا وعياً صرفاً صامتاً، وأنك جزء من هذا الوعي الكلي بل: هو أنت!
فلا خالق ولا مخلوق والمتحكم هو “وعيك”، وواقعك داخل وعيك، وأنت موجده بمحض تفكيرك واختيارك، كما في التقليد الفيدي وفلسفة اليوجا.
والمسلم المتأثر بهذه الفلسفة قد غفِل ونسيَ قول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النمل 68]وقوله جل شأنه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر 49].
ويتكئ الباطنية كعادتهم في إثبات معتقداتهم، على مقدمات علمية ثابتة أو افتراضية، ليقفزوا منها إلى الجزم بنتيجة باطنية غير معترف بها ولا يمكن إثباتها.
ففي هذا المثال يحتج الباطنيون بنظرية “الحقل الموحد” على المستوى المادي، ثم يلصقون بها عقيدتهم في تشكل القدر!
وهي نظرية فيزيائية “افترضها” آينشتاين محاولاً تقريب الفيزياء الكمية وإيجاد قانون يحكم تفاعلاتها، ولكنه لم ينجح في تقرير قانون لذلك وبقيت نظرية الحقل الموحد معضلة فيزيائية إلى اليوم.
ومع ذلك فإن الروحانيين لا يأنفون من التسلق على نظريات شائكة عند أصحابها، ويحملونها ما لا تحتمل، لإثبات عقائدهم الباطنية ولو لم تكن من نفس “المجال”، فبين المقدمة المادية والنتيجة الباطنية مساحة كبيرة، يستحيل تقريبها أو الاعتراف بصحة بنائها عليها، مما يجعل استدلالهم بها محض ادعاء.
وفي ذلك يقول أحد المختصين معلقاً على فيلم يبدأ بتقريب “فيزياء الكم” ليصل بالمشاهد إلى مبادئ روحانية متعلقة بالقدر والخلق فيقول “إذا كان الناس سيخرجون من السينما معتقدين بأن الفيزيائيين الباحثين في الفيزياء الكمية، يقضون وقتهم في التعامل مع (الكشوف الروحانية) فنحن نحس بالخجل… فقد تم تضليلهم، فالفيلم ينزلق بعيداً في منحدر زلق”.
فحقيقة الأمر؛ مجرد استخدام لمصطلحات علمية للدلالة على مفاهيم باطنية، والسامع يظن أن هذه النتيجة الإلحادية مرتبطة بالكلام العلمي الذي سيق دليلاً عليها.
مع أن المنظر الباطني يصف هذه النظريات بـ”المشكلة والمحيرة” للعلماء والتي لم يقطع بأي من نتائجها، ومع ذلك يجزم بكل سهولة بنتيجة ملفقة تدعم التوجه الباطني الذي يريد إثباته!
وبهذه الطريقة تنطلي هذه العقائد الخرافية على غير الممحص من الناس حينما تلصق زوراً بالعلم المادي.
ومن المسلّم به في عقيدة المسلم؛ أن القضايا الغيبية المحضة –كالإيمان بالله تعالى وصفاته واليوم الآخر والقدر خيره وشره – تستقى من الوحي المعصوم ولا تخضع لقوانين عالم الشهادة كالفيزياء والفلك وغيرها.
هذا وقد يلتبس الأمر على البعض مع قدرة العبد على اختيار فعله والسعي في أسبابه، واختيار سلوك طريق الهدى وطريق الضلال، وهو نفس الإشكال المتكرر مع “القدرية” في مشيئة العبد ومشيئة الرب، والمشيئة الكونية والشرعية.
ويضبط ذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر، ومجملها: (أن للعبد اختيار ومشيئة محدودة متعلقة بقدرته على الفعل أو الترك في نطاق الأسباب الممكنة، وهي تابعة لمشيئة الله تعالى النافذة على المستوى الكوني، وأن الله تعالى هو الخالق للعبد وأقداره قال تعالى: }اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{ [الصافات 96])
فلا يلام العبد إلا على تقصيره أو صدوده وإعراضه، عن تحصيل ما أتيح له من الأسباب الممكنة أو ما أمر به منها، وحسابه إنما يكون على كيفية تعامله مع ما ابتُليَ به كوناً هل يدفعه بما أمر به شرعاً؟
والفرق بين المعتقد الصحيح والطرح الباطني، أن الطرح الباطني يقرر أمرين باطلين:
١. إلغاء حكمة الله تعالى وتدبيره، وجعل التصرف المطلق راجع للعبد، فمتى اختار فالقدر تابع لاختياره مطاوع له، وبهذا ينتفي وجود مقدّر حكيم، يعطي ويمنع ويخفض ويرفع سواه!
- ادعاء غيبي لا دليل عليه، وهو إمكانية التأثير على احتمالات عديدة متساوية لا مرئية، وغير متشكلة في الكون، لتقع وتتشكل (تخلق) بأسباب خفية غير معقولة، وبهذا يرفع تصرف العبد عن مستوى التعاطي للأسباب والسعي لها، إلى مستوى خلق الأقدار وحتمية وقوعها، بمجرد تعديل الفكر وفهم آليتها المزعومة، فينتفي وجود مقدّر خالق للأقدار.
- فنازعوا الرب عز وجل في أخص خصائص الربوبية وهي (الخلق- والتدبير)، وهذه هي عين عقيدة الروحانيين التي تقرر ألوهية العبد وخلقه للأقدار.
ولو أصيب أحدهم بمرض، بان عواره وما استطاع اختيار القوة على الضعف ولا الحياة على الموت إلا ببذل سبب لا يقطع بنتيجته.
ولاختفى “السوبرمان” المزعوم والاختيار المتوهم، ولتلاشت الاحتمالات المستجلبة بمجرد الرغبة والتفكير!
ولم يبق إلا احتمال واحد بيد العبد، وهو الافتقار إلى الله الواحد القهار والاعتراف بالضعف والعبودية، وبذل الجهد والمال في تعاطي أسباب الشفاء الممكنة المخلوقة، وهذه هي الراحة والعافية الحقيقية.
بل من ضعف العبد المخلوق أنه لا اختيار له في تصريف فضلاته أو منعها، فهو مضطر اضطراراً لقضاء حاجته فكيف بما هو أشد من ذلك من الأقدار؟ وإنما الذي غره هو ما بلغه الله إياه من العلم وما يسر له من سبل العيش فألبسها لباس القدرة المطلقة، وحملها من العقائد الباطلة ما لا تحتمل، وظن أنه استغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق 6]
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم.