السلام المنشود

المشاهدات : 1,018

الكاتبة: حنين السديري

جمعتني قبل أيام جلسة مع سيدة لها اهتمام بالفكر والثقافة، وتبادلنا الحديث حول ما يحتاجه الناس من المعرفة والأصول المعرفية، وعندما ذكرت لها أن معرفة العقيدة وفهمها من أولى الأمور التي يحتاج الناس معرفتها؛ تفاجأت برأيها أن العقيدة الإسلامية سبب لتعاسة الناس وبعدهم عن السلام! وقالت: الناس اليوم يحتاجون إلى المحبة والهدوء، وليس صراعات العقيدة والتكفير.
وجدت هذه الفكرة -للأسف- عند كثير ممن ترك العلم الشرعي ونصوص الوحيين، واتجه للجانب الفلسفي في التنمية البشرية، وربطها بالطاقة وتوابعها، فأكثر ما يدندن حوله متبنو هذا الفكر هو “السلام الداخلي” وسبل الوصول إليه.
فما هو السلام الذي ينشدونه؟، ولماذا ظنوا أنهم لم يجدوه في ديننا العظيم؟.
تتبعتُ مفهوم “السلام الداخلي” من خلال من تحدث عنه في كتب ومقالات تطوير الذات الفلسفية، ووجدته يتقلب بين معان عديدة ومتنوعة، وليس له معنى واحد أو ضابط محدد؛ فمعناه هلامي بحسب كل شخص واهتماماته ورغباته وهواه، لكن تدور معظم معانيه بين الهدوء النفسي والاستقرار و البعد عن النزاعات والصراعات مع من حولنا، كما يأتي بمعنى الرضا والسكينة النفسية والحصول على كل ما يرغبه الإنسان من رغبات دنيوية من مال وصحة ورفاهية ومتع.

والسؤال المهم:

هل خلت عقيدتنا الإسلامية من هذه المعاني فنبحث عنها خارجها؟
أو هل تعارض عقيدتنا الإسلامية هذه المعاني لنهرب منها لغيرها؟
ورد في الحديث أنه (جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده خديجة، وقال: إن الله يُقرئُ خديجة السلام، فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمة الله) (حديث حسن).
فما المعاني التي استشعرتها أمنا خديجة -رضي الله عنها- في بداية إسلامها لتشعر بالسلام الكامل رغم الصعوبات التي طرأت على معيشتها بعد نبوة زوجها -عليه الصلاة والسلام-؟.
الله هو السلام: أي أنه -سبحانه- سلام من جميع العيوب والنقائص، وهو الذي سلِمَ المؤمنون من عقوبته، وسلِمَ الخلق من ظلمه، فكل سلام منه بدأ وإليه يعود.
وهو الذي يدعو إلى دار السلام: {وَٱللَّهُ يَدعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ} (يونس 25)، وهو -سبحانه- الذي يرسل الملائكة لعباده المؤمنين تطمئنهم عند موتهم: {ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيكُمُ ٱدخُلُواْ ٱلجَنَّةَ بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ) (النحل 32).
الله هو السلام: أي أن شرعه وأوامره هي السلام، وتحمل كل معاني السلام، وتقودنا إلى السلام في حياتنا وعلاقاتنا.
ويكفينا أن تحية الإسلام هي السلام؛ فعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام].
فكيف يحق لنا -بعد استشعار هذه المعاني- أن نطلب “السلام” من غيره، ومن غير شرعه ومنهجه؟!
والأعجب عندما يُطلب هذا المعنى العظيم والبليغ الأثر من أديان وكتب وأساطير وضعها البشر أثناء بحثهم عن السلام في هذه الدنيا، نتيجة الخواء الروحي الذي عانوا منه لبعدهم وغفلتهم عن دين الله وشرعه، فضلوا طريقهم.
السلام عند الأديان الأخرى سلام وهمي مؤقت؛ لأنه لا يحمل إجابات منطقية واضحة عن أسئلة الغيب الكبرى، التي يحتاجها الإنسان للوصول إلى الاطمئمان.
فالإيمان بالغيب الحق هو سبب في الراحة والاطمئنان، وهو الذي ميز الله به عباده المتقين في أول آيات سورة البقرة في قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ٱلكِتَٰبُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدى لِّلمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِٱلغَيبِ} (البقرة2-3)
وهذا ما تفتقده الأديان الوضعية، فالغيب في معتقدنا واضح لا متناقض، والشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالات العقول، أي بما يتحير فيها الإنسان لكن لا يحيلها عقله.
أما الأديان الوضعية فإجاباتها عن عالم الغيب متخبطة متناقضة، لا توصل لليقين والاطمئنان القلبي.
إن اطمئنان القلب يأتي مع الإجابة على أسئلة الحياة الكبرى:
من أنا؟
ولماذا خلقت؟
وإلى أين المصير؟
ولماذا يصيبني الشر والسوء؟
معتقدنا الإسلامي مريح للنفس في إجاباته -لمن يعقلها على حقيقتها-، والبلاء الذي يصيب العبد إما كفارة أو رفعة درجات أو تطهير من الذنب، وعاقبة ذلك كله خير، قال صلى الله عليه وسلم: [عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرـ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له] رواه مسلم.

السلام في الإسلام يعطي كل ذي حق حقه، فنعفو ونصفح عند المقدرة، ونأخذ الحق من الظالم، وهذا فيه مراعاة لبشريتنا ومشاعرنا وحقوقنا، أما من يقول إن السلام هو التسامح المطلق، وأن أخذ الحق والدفاع عنه هو “مقاومة” تسيء للشخص وتضره!، فهو سبب في تمادي الطاغي في طغيانه، واستمرار الضعيف في ضعفه، فابتعد كل فريق بذلك عن “السلام” المنشود.

السلام في الإسلام هو دعوة الناس للعقيدة الصحيحة، ولعبادة الله -عز وجل- كما أمرنا، وليس من السلام أن أعبد إلها باطلاً، وأتبع منهجاً وهمياً وضعه بشر مثلي في ضعفه وجهله، فليس يصلُح حال الإنسان إلا بمنهج وضعه رب البشر وخالقهم، الأعلم بحاجاتهم.

السلام الحقيقي هو ما يوصلني إلى السلامة في الآخرة، وإلى دار السلام، وليس سلاماً يقودني إلى غضب الله وعقايه!.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم ارزق قلوبنا لذة الإيمان، وارزقنا الجنة دار السلام.

الأرشيف

وقفات مع تحدي “تشارلي”
العبث بالقلب النابض
القائمة