الكاتبة: لمياء بنت محمد القحطاني ١٤٤٠هـ
إليْكَ إشاراتي، وأنتَ الذى أهْوَى *** وأنتَ حَدِيثى بين أهل الهوَى يُرْوَى
وأنتَ مرادُ العاشقين بأسْرهِمْ *** فطُوبَى لقَلْبٍ ذابَ فيكَ من البَلْوَى
السهروردي
العشق هو ذاك الشعور والانفعال العاطفي الذي يمتلك القلب تجاه المعشوق، والمصاحب للرغبة والشهوة للجنس الآخر، ويعد من أعلى مراتب الحب ودرجاته.
وفي النصوص الشرعية لم يرد مصطلح العشق في شرائع الدين الإسلامي، ولكن بالمقابل وردت كلمة الحب: حب الله، حب طاعته وعبادته، حب أنبياءه، حب أولياؤه…الخ، وبين المصطلحين فرق ولا شك لاسيما وأن المحبة هي عبادة قلبية ثابتة بالنص، فمسألة تحرير المصطلح مهمة في هذا المقال لتوضيح أبعاد المصطلحين العشق والمحبة والفرق بينهما، ففي قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} بيّن ابن عاشور في تفسيره أن محبة الله عبدَه أي رضاه عنه وتيسير الخير له ومحبة العبد ربَّه انفعال النفس نحو تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينه.
وفي قوله – جل في علاه – {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} جعل الله اتباع نبيه علامة وإثباتا مقرونا بمحبته –سبحانه وتعالى-، قال محمود الوراق:
تعصي الإله وأنت تظهر حُبّه هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كان حبك صادقا لأَطَعتَهُ إن الـمُحبّ لمن يحبّ مطيعُ
وكثير من النصوص وردت في هذا المعنى وبلفظ المحبة ولم يرد لفظ العشق، وإنما ظهرت هذه اللفظة في حق الذات الإلهية في النصوص الصوفية، ولربما ظهر للقارئ انطباع أول بأن مايقرؤه على شبكات التواصل الاجتماعي والكتب الأدبية من أبيات بعض شعراء الصوفية كابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي لاسيما إن كانت مقتبسة ومختصرة يظهر له أنها أبيات غزلية كالتي بين المحب وحبيبته وإن تضمنت مايخدش الحياء أحيانا، ولكن بتتبع دقيق لكامل القصيدة وتفسير معانيها تتضح أبعاد أخرى تختلف عن الانطباع الأول، أبعاد تتمحور حول العشق الإلهي كمعتقد، يقول الحلاج: “لاإله إلا العشق”، وكان لنشأته في المعتقدات الصوفية تأثر بالعديد من الفلسفات الغربية والمعتقدات الوثنية القديمة باختلاف طرائقها واتفاقها في مبدأ الحب والذوق والعشق للوصول لمرحلة التجلي بالذات الإلهية والاتحاد معها وفناء العاشق في ذات المعشوق فيكونا شيئا واحدا، والمقصود من الفناء هو أن يفنى الإنسان عن صفاته البشرية ويتجلى ويتلقى الصفات الإلهية، وحينها يُكشف الحجاب عن كل غيب، ويتنوع التعبير عن هذه الرغبة وهذا العشق مابين الشعر والأدب النثري.
وفي ثنايا هذا المقال عزيزي القارئ ستتضح لك أبعاد هذا العشق المنشود وغايته وسبيل الوصول إليه وأبرز أعلامه من المتصوفة، وبوضوح الصورة الإجمالية له سيسهل الحكم عليه وكشف تدليسه بعبادة المحبة الشرعية وبداية لابد أن نوضح أهم محاضن هذا المعتقد إذ أنه يعتبر من الأساطير التي عرفت في المعتقدات الهندوسية الهندية تحت معتقد الروح الأنثى التي فقدت محبوبها ولا تهدأ إلا بالاتحاد معه، وبهذا الاتحاد تتجلى في أرفع صورها، وللمتأمل في نصوص الصوفية يجد أن نعوت المرأة كثيرا ما تحمل على الذات الإلهية ويظهر الإلحاح الجسدي في فكرة العشق الإلهي في عبادة الأنوثة المحاطة بالنزوات والشهوات لهذا التجلي، وكان ابن الفارض يسرف في توكيد أنوثة ربه وتجليه في جسد امرأة يواعدها ليلا، فيقول(١):
ولسنَ سِوَاها لا ولا كُنَّ غيرهَا وما إنْ لها، في حُسْنِها، مِنْ شَريكَة ِ
كَذاكَ بِحُكْمِ الإتّحادِ بِحُسْنِها، كما لي بَدَتْ، في غَيْرِها وَتَزَيّتِ
بدوتُ لها في كلِّ صبّ متيَّمٍ بأيِّ بديعٍ حُسْنُهُ وبِأيّة ِ
وَلَيْسوا، بِغَيري في الهوَى لتَقَدّمٍ عليَّ لسبقٍ في اللَّيالي القديمة ِ
وما القَومُ غَيري في هَواها، وإِنّما ظهرتُ لهم للَّبس في كلِّ هيئة ِ
ففي مرَّة ٍ قيساً وأخرى كُثيراً وآونة ً أندو جميلَ بُثينة ِ
تَجَلّيْتُ فيهِمْ ظاهِراً، واحْتَجَبْتُ باطِناً بهِمِ، فاعْجَبْ لِكَشْف بِسُتْرة ِ
وهُنَّ وهم لا وهنَ وهمٍ مظاهرٌ لنا، بِتَجَلّينا بِحُبٍ ونَضْرَة ِ
فكُلُّ فتى حُبٍّ أنا هُوَ، وهيَ حبُّ كلِّ فتى والكلُّ أسماءُ لُبسة ِ
أسامٍ بهاكنتُ المسمَّى حقيقة ً وكنتُ ليَ البادي بِنَفْسٍ تَخْفّتِ
وما زلتُ إيَّاها وإيَّايَ لم تزلْ ولافرقَ بل ذاتي لذاتي أحبَّتِ
وكثير من شعراء العشق سلكوا هذا المسلك في التعبير عن العشق ورغبة التجلي والاتحاد، يذكر جلال الدين الرومي عن شيخه التبريزي أن له زوجة اسمها كيمياء خاتون، غضبت يوماً على زوجها التبريزي، فذهبت مغاضبة إلى البساتين، فأمر الرومي نسوة مدرسته بالبحث عنها وإحضارها للشمس، فلما خرجن لذلك دخل الرومي على شمس التبريزي في خيمته الفارهة، فرأى الشمس مع زوجته كيمياء وهو يداعبها ويحادثها، فوقع الجلال في حيرة لكنه خرج تاركاً الزوجين في لعبهما وجعل يمشي في فناء مدرسته جيئةً وذهاباً حتى ناداه الشمس قائلاً: ادخل.
فلما دخل الخيمة لم يجد فيها غير الشمس فسأله عن الشمس عن سر ذلك قائلاً: أين ذهبت كيمياء؟ فقال الشمس: إن الله تعالى يُحبني إلى حدٍ لو شئتُ أن يجيئني في أي صورة لجاءني!، وفي هذه اللحظة جاءني على شكل كيمياء!!. -تعالى الله عما يقولون-
وقد أفرد الصوفيّون مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع السلوك التي يتوجب على المؤمن إتباعها إذا أراد أن يحوز على حب الله، وبدأت تظهر في عباداتهم وصلواتهم أشكال مختلفة من السلوك الإيماني الذي كان برأيهم يميزهم عن غيرهم من المسلمين.
ومن ناحية أخرى وبشكل موسّع نجد أن معتقد العشق الإلهي ظاهر في الفلسفة الأفلاطونية حيث صاغها أفلاطون في كتابه المأدبة، وهي تدور حول رغبة “زيوس” رب الأرباب -على زعمهم- في معاقبة البشر على شرورهم فشطر كل إنسان إلى شطرين متماثلين وفرّق بينهما بأن أصبح كل إنسان منفصل عن مثيله، فيكون الإنسان معذبا بعيدا عن نصفه الآخر ولو استمر هذا العذاب طيلة حياته، ولكنه يظل يبحث عن نصفه الآخر حتى يتم الاتحاد بينهما.
وقسم أفلاطون الناس حسب هذه الفلسفة إلى ثلاثة أصناف:
– صنف الذكور الذي لا يكتمل إلا بالذكور.
– صنف الإناث الذي لا يكتمل إلا بالإناث.
– صنف لا يكتمل إلا بالجنس الآخر.
وهذا يفسر نزعة الشذوذ في سيرة أعلام التصوف الإسلامي كابن الفارض وابن عربي والتلمساني والرومي والتبريزي.
ولا تقف فلسفة العشق إلى هذا الحد وفق مايراه أفلاطون، حيث أن الإنسان يظل يبحث عن نصفه الآخر حتى يجده ويحبه
، ثم يكتشف أن العبرة ليست في الجمال الشائع بين البشر فالجمال الحقيقي هو جمال الروح ومالروح إلا واسطة بين الله والإنسان، وحينها يلزمه البحث عن الجمال المطلق وهو الله فيسعى للاتحاد به فيتحقق الكمال في ذاته، وتشكّل هذه المرحلة أعلى مراتب التصوف فيكون الإنسان في مقام خليفة الله على الأرض وتتجلى الأسماء والصفات الإلهية فيه، وهذا بالضبط ما حصل مع آدم حين سجدت له الملائكة على زعمهم.
فالعشق عندهم فلسفة ومعتقد أبلغ من كونه محبة للذات الإلهية كما يشاع في الاقتباسات المبتورة والمختومة بأسماء المتصوفة على أنهم شعراء وأدباء بينما هم في الحقيقة رموز بلغت من البشاعة الفكرية عقيدة وأخلاقا مبلغا كبيرا يسعون ويدعون إلى الفناء في ذات الله والاتحاد به لكشف الأسرار والأنوار الغيبية الإلهية بل وأبشع من ذلك الابتذال والقبح الحاصل جراء هذا المعتقد وعدم التنزيه والتقديس للذات الإلهية واستخدام الألفاظ التي لاتليق به سبحانه وفيها سوء أدب معه.
وبلوغ التجلي هو هدف هذه المحبة عند الصوفية من خلال تطهير البدن من كل متع الدنيا والشهوات وممارسة رياضات خاصة تقشفية كالجوع تيسيرا للاتحاد بالله، وهذا ما حصل بزعم السهروردي حيث فضل الموت جوعا سبيلا للاتحاد بالذات الإلهية.
وفي ثنايا الحديث عن التصوف الإسلامي فإنه يجدر أن نذكر أن أول من قال بالحب الإلهي بمفهوم مغاير عما ورد في كتاب الله وسنة رسوله هي رابعة العدوية، وكانت تلقب بـ شهيدة العشق الإلهي.
ومن أقوالها:
عَرَفْتُ الهَوى مُذ عَرَفْتُ هواك وأغْلَقْتُ قَلْبي عَلىٰ مَنْ عَاداكْوقُمْتُ اُناجِيـكَ يا مَن تـَرىٰ خَفايا القُلُوبِ ولَسْنا نراكأحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل ٌ لـِذَاك
ويشترط في عشقهم الإلهي المزعوم أن يكون دون سبب ودون نتيجة، فهم لا يعشقون الله رغبة في دخول الجنة أو مخافة من النار، بل إن غايتهم الاتحاد والتجلي وحسب ومادام الخوف من النار ورجاء الجنة حاضران فهما يحيلان دون بلوغ العشق الحقيقي.
وأشهر من برز عشقه الإلهي من خلال أشعاره ونثره الأدبي هو ابن الفارض الذي يعتقد في نفسه أن إمام العاشقين وسيدهم وله الأبيات المعروفة:
زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً وارحمْ حشًى بلظى هواكَ تسعَّراً
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة ً فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي:لن تَرَى
يا قلبُ!أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا
إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا
قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
عني خذوا وبيَ اقْتدوا وليَ اسْمعوا، وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى
ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى
وأباحَ طرفي نظرة ً أمَّلتهـــا فغدوتُ معروفاً وكنتُ منكَّراً
فدهشتُ بينَ جمالهِ وجـلالهِ وغدا لسانُ الحالِ عني مخبراً
فيظهر من أبياته أنه بلغ من العشق مبلغا جعله يصل لرؤية الحق عز وجل-تعالى الله علوا كبيرا-، وأنه مصدر الناس في معرفة الأسرار والكشوفات. ويقول:
نسخْتُ بحُبّي آية َ العِشقِ من قبلي، فأهلُ الهوى جُندي وحكمي على الكُلِّ
وكُلُّ فَتًى يهوى، فإنّي إمَامُهُ، وإنّي بَريءٌ مِن فَتًى سامعِ العَذْلِ
ولي في الهوى عِلْمٌ تَجِلّ صِفاتُهُ، ومنْ لمْ يفقِّههُ الهوى فهوَ في جهلِ
ومن بعده برز ابن عربي وجلال الدين الرومي صاحب قواعد العشق الأربعون التي تضمنت مخالفات ومناقضات للعقيدة الإسلامية ليس هذا مقام التفصيل فيها.
ففكرة العشق من خلال ماسبق توضيحه تتضمن عقيدة وحدة الوجود التي تجعل عين الشيء هي ذات الله وأن كل فهم يوصل إلى الله هو فهم صحيح مهما كانت الديانة، فوجود الله لا ينحصر في شرع ولامكان، وإنما مكانه الحقيقي في قلب العاشق فيتجلى فيه ومن ثم تسقط الـ (أنا) لأنها بزعم المتصوفة تحول بين الأحبة، والغريب أنهم يستدلون بعدد من الأدلة هي في حقيقتها تدينهم كقوله {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}،فاستدلوا بمثل هذه الأدلة على شرعية العشق وفلسفته وغايته،مع أن مدلول هذه الآيات وغيرها يتقضي فساد مايعتقدون ويقيم الحجة عليهم، يقول ابن تيمية:” جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها، فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال”،ويقول:” جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق؛ لا تدل على قول المبطل”.
ومن صور التدليس لتعزيز فكرة العشق جعل الخوف أمر حاجز بين العبد وربه مسقطين أن عبادة الخوف والخشية من الله عبادة قلبية ثبتت بالنص، فنجد أن ابن عربي ينبذ الخوف ويبحث عن هذا العشق وإن كان عند أهل الكفر والضلال فيقول: “سأبحث عن دين الحب أينما كان حتى لو كان عند اليهود أو النصارى أو المسلمين، إن الأصوليين يتبعون دين الخوف فتكون سياستهم التخويف”، ويقول أيضاً: “فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الأكبر”.
واستمرت فكرة العشق الإلهي مستمرة الطرح وإن تجدد قالبها على يد المتدروشة الجدد باسم الحب تارة والعشق تارة وتقصد اللبس بينهما وجعلهما على غير مراد الشارع، وفي مقابل هذا نبذ الخوف واستثنائه من العبادات، وأن الخوف هو عقيدة الشيطان فلا يُعبد الله بالخوف، وفي هذا كما ذُكر إسقاط لعبادة قلبية نص عليها الشرع في الكتاب والسنة، ويعتقدون أيضا أن الحب هو سر الوجود وأن حب جميع الناس دون كره ماهم عليه من الضلال والانحراف يشكل جسرا إلى العشق الإلهي وذلك يُسقط عقيدة الولاء والبراء.
وفي هذا المعنى يقول الحلاج: “الوصول للعشق الإلهي يكون بعد تذوق العشق البشري”!!
وتزيد هذه المحبة مع الأذكار الصوفية الخاصة بهم ومع زيادتها في قلب العاشق تتحول هذه المحبة إلى لهيب يحرق قلب العاشق تجاه معشوقه فلاينشغل إلا به، كما أن لهم طقوسا غريبة في تلقي الحب من الله ومن أشهر هذه الطقوس رقص الدراويش ودورانهم في السماع وهيئتها دوران برفع اليد إلى السماء وخفض الأخرى إلى الأسفل.
ختاما
أرجو أن تكون حقيقة العشق الإلهي التي تصدرت المنابر الإعلامية حديثا بالوصول إليها وبلوغها باسم الحب وعبادة الحب قد اتضحت للقارئ الكريم، وتبينت خطورتها العقدية وآثارها على عقيدة المسلم، وتظهر أبرز الفروق بين العشق الإلهي وعبادة المحبة فيما يلي:
العشق في اللغة والعرف الاإفراط في المحبة ويكون مقروناً بالشهوة لنيل المراد من المعشوق وعلى هذا فلايجوز على الله جل في علاه، والمحبة شعور خالي من هذه الشهوة وعلامة المحبة تمام الطاعة.
العشق يشغل صاحبه عن مصالح دينه ودنياه وفيه تضييع للضرورات الخمس التي أكد عليها الشرع فهو آفة تكاد تغيّب العقل أما المحبة لله فهي قائمة على طاعته وامتثال أوامره من طاعة وسعي لكسب الرزق وطلب العلم وتدبر النعم والمحافظة عليها.
العشق الإلهي لم يرد في الشرع لالفظا ولا معنى، وإنما جاءت النصوص تؤكد على العبادات القلبية بأركانها الثلاث المحبة والخوف والرجاء قال المصطفى – عليه السلام -: [لا يَجْتَمِعَانِ في قَلْبِ عَبْدٍ في مِثْلِ هَذا الْمَوْطِنِ؛ إلاَّ أعْطَاهُ اللهُ ما يَرْجُو، وآمَنَهُ ممَّا يَخَافُ].
فعلاقة المسلم بربه علاقة تقوم على الإخلاص والتوحيد ومتابعة النبي e والعبادة لابد وأن تتضمن معنى الذل ومعنى الحب وهي على ثلاثة أركان: المحبة والرجاء والخوف مجتمعة لتتحقق العبادة حينها وفق ما شرع الله، قال ابن تيمية -رحمه الله-:” قال بعض السلف: (مَن عبد الله بالحب وحده: فهو زنديق، ومَن عبده بالخوف وحده: فهو حروري -أي: خارجي-، ومَن عبده بالرجاء وحده: فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء: فهو مؤمن موحد)”.
وأن الخوف من الله لابد أن يكون مقرونا بالرجاء والمحبة فلا يكون باعثاً على القنوط من رحمة الله، ولايكون رجاء يأمن معه من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكره ينافيان التوحيد:
قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
وقد ثبت بالنص القرآني على عبادة الله محبة فيه وخوفا منه ورجاء إليه، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}.
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-:”ويعنى بقوله: (رَغَباً): أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه، من رحمته، وفضله، (وَرَهَباً): يعني: رهبة منهم، من عذابه، وعقابه، بتركهم عبادته، وركوبهم معصيته، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:”وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: في عمل القُرُبات، وفعل الطاعات.
(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال الثوري: (رَغَبًا) فيما عندنا، (وَرَهَبًا) مما عندنا، (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: مصدِّقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: مؤمنين حقّاً، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبداً، وعن مجاهد أيضاً: (خَاشِعِينَ) أي: متواضعين، وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: (خَاشِعِينَ) أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-:
“والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما: المحبة، والتعظيم، الناتج عنهما: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهَباً) الأنبياء/ 90، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف ولهذا كانت العبادة أوامر، ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة، وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم، والرهبة من هذا العظيم”.
فهذه هي العبادة التي ارتضاها الله لعباده بعيدا عن خفايا العشق الموهوم.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
___________________________
(١): أحد أشهر الشعراء الصوفيين ويلقب بسلطان العاشقين.
____________________________
المراجع:
ديوان ابن الفارض. ص (50).
مناقب العارفين للأفلاكي. (2/214).
الجواب الصحيح على من بدل دين المسيح. (4/43).
مجموع الفتاوى. (6/288).
مجموع الفتاوى. (15 / 21).
تفسير الطبري. (18 / 521).
تفسير ابن كثير. (5 / 370).
مجموع فتاوى الشيخ العثيمين. (8 / 17، 18).