الكاتبة: جمانة محجوب – ١٤٤٠ هـ
حين تطرق كلمة “التسامح” المسامع، فأول ما يتبادر إلى الذهن أنها صفة جميلة وخلق عظيم يرتقي به الإنسان في التعامل مع الآخرين، وتقد جسّد ذلك النبي -صلوات الله وسلامه عليه- حينما فتح مكة، فقال لأهلها الذين آذوه أشد الإيذاء: [ما تظنون أني فاعل بكم؟]، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال لهم -صلوات الله وسلامه عليه-: [اذهبوا فأنتم الطلقاء]، نِعْم السماحة، ونِعْم العفو عند المقدرة.
وقد ذكره الله في كتابه بالعفو، وأنه لا يستطيعه إلا من ارتقى في إيمانه وإرادته لقوله تعالى: {وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وأن ذلك العفو والتسامح يفعله الإنسان يبتغي به الأجر والعفو من الله عنه في الدار الآخرة لقوله تعالى: {فمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
إلا أنه من المأذون به شرعًا رد الإساءة بالمثل، دون تعدِ أو تجاوز أو ظلم، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ومنه أحكام القصاص في الإسلام، ولكنّ المثل الأسمى في الإسلام أن تُحسن إلى من أساء إليك، وتعفو عمن ظلمك، فقال تعالى في نفس السياق تأكيد على أفضلية العفو مطلقًا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ… وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{، وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
هذا هو خلق التسامح في الإسلام الذي يدل على قدرة الإنسان في كبح جماح نفسه وقوة إرادته في عدم إمضاء غضبه وانتقامه، وارتقائه في إيمانه بالعفو والتسامح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: [ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب].
وكما فعلت الباطنية مع كثير من الأخلاق الإسلامية في التلبيس، فقد حرّفت مسار هذا الخلق العظيم إلى مسار خطير جدا، كما صرّحت بذلك إحدى مدربات الجذب على قانون التسامح، بقولها: (الشخص الذي لا يسامح يجلب نفس المواقف، لماذا؟ لأنه متمسك بنفس الطاقة ونفس الذبذبات فبالتالي أنت تجذب نفس الأحداث..) وهذه العبارة تلخص فلسفة “قانون التسامح” المنتشرة حاليا تحت غطاء الشرع، فشتان بينها وبين خلق التسامح كما قد يتبادر إلى أذهاننا من أنه ذلك الخلق الجميل، الذي يرتقي بالقلوب لتبتعد عن الحقد والغل والغضب، مما يجعل المجتمع في تكاتف ولحمة وأخوة، وبيان ذلك قول المدربة: (على فكرة التسامح ما يعني السذاجة مو يعني أرجع أحاكي نفس الشخص اللي ضرني، ولا كأن شي صار، انتبه)!!
فما هو هذا القانون؟
والى ماذا يوصل؟
ولماذا نرفضه وظاهره يعبر عن صفة حميدة؟
هو كما صرّحت بذلك المدربة: أنه أحد صور قانون الجذب، فإنك إذا لم تسامح نفسك أو الآخرين، فإنك تتمسك بنفس الطاقة والذبذبات فتجذب لنفسك الأحداث السلبية التي سببت لك ذلك الألم، وستستمر في تلك الدوامة طالما لم تسامح!
فإذا أردتَ جذب الأقدار الإيجابية.. سامح نفسك والآخرين.. وإذا أردتَ جذب السعادة والراحة.. سامح نفسك والآخرين.. وإذا أردتَ جذب المال والثراء.. سامح نفسك والآخرين وإن سرقوك.. وإذا أردتَ جذب الصحة والشفاء.. سامح جسدك ومن تسبب في مرضك..
فحقيقة هذا القانون -في زعمهم- هو تغيير الأقدار وجذبها، وأنّ المتصرف والمدبر للأقدار هو (أنا) أي الإنسان! تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا..
فيكون الإنسان بذلك هو النافع الضار، والمانع المعطي، والشافي والرزاق، والمتصرف والمدبر لكل أقداره؛ حيث أن ذلك كله -بزعمهم- مبني على تسامحه مع نفسه ومع الآخرين ومع الواقع والأحداث.
وهذا في حقيقته منازعة للرب فيما هو من خصائص الربوبية، وأيُّ شرك أعظم من أن جعلوا الإنسان ربًّا متصرفًا مدبرًا، وهذا هو شرك الربوبية، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.
ثم من أنا حتى أغفر لنفسي وأسامحها على أخطائها وذنوبها، وأنازع الله في صفة الغفران للذنوب؟
إنّ مسامحة النفس على ما تقترفه من الذنوب والآثام تجعل الإنسان راضٍ عن نفسه دائما، مما قد يبعده عن عن التوبة والاستغفار الذي كانت تُعَدّ للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من مئة مرة، بل وتصرفه عن الاعتذار ورد الحقوق إلى الناس.
ليس ذلك فحسب، بل حتى في التعامل مع الآخرين ففي دعوى التسامح بمفهومه الفلسفي؛ يدعون التسامح، ولكنهم أبعد ما يكونون عنه؛ فإنهم يركزون على أن التسامح لا يعني أنك تعود فتتعامل مع الشخص وكأن شيئا لم يكن، لا بل بإمكانك مقاطعته وعدم رؤيته مرة أخرى!
فأحد كبار مدربي قانون التسامح يزعم أنه يتقبل جميع الناس وجميع الآراء، وأنه متسامح مع كل معارضيه ومخالفيه، ثم تجده عندما يناقشه أحد معارضيه في أحد مناصات التواصل الاجتماعي، يُبادر إلى حظره!
بحجة الابتعاد عن السلبيين ومشتتي الطاقة أصحاب الوعي المنخفض، لئلا تتأثر أقدارهم بهؤلاء السلبيين في زعمهم.
أيُّ تسامح هذا، وأين هم من التسامح الشرعي الحقيقي الذي ينهى عن الهجر أكثر من ثلاثة أيام، والذي يأمر بمعاملة من أساء بالحسنى كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ بل قد يرتقي الإنسان في إيمانه فيبلغ درجة عالية من التسامح والعفو كما حصل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد حادثة الإفك، التي قذفوا فيها عرض ابنته الشريفة عائشة رضي الله عنها، وكان ممن تكلم في عرضها رجل فقير كان ينفق عليه أبو بكر، فبعدما ظهرت الحقائق غضب أبو بكر رضي الله عنه وقرر أن يقطع النفقة عنه، فنزلت الآية تعاتب أبا بكر على ذلك قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله نحب، فلم يقطع عنه النفقة إلى أن مات.
ومن التناقضات العجيبة في هذا القانون، أنه قد يصل للقطيعة مع الأقارب والأرحام والمسلمين بل وقد يصل للوالدين؛ فهذه إحداهم عندما اختلف معها والداها على أفكارها قامت بهجرهم ومقاطعتهم، بل وترك البلاد ووصل الحال إلى أن والديها ليس لهم أي علم عنها لمدة تزيد عن العام!
وأما حالهم مع الكفار فإنّ تسامحهم المزعوم لا حدّ له، فَيصِل بهم إلى قبول معتقداتهم الوثنية والإلحادية بحجة التسامح وتحت شعار قبول الآخر، فذاك أحدهم يصف أحد كبار الملاحدة الروحانيين بأنه المعلم الحكيم الذي لم يعرف العالم مثله!
وفي هذا مخالفة لعقيدة الولاء والبراء التي تقوم على وجوب بغض الشرك وأهله كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.. والآيات في ذلك كثيرة.
هذا مثال على طريقة الباطنية الحديثة، التي تبدأ بمقدمات مقبولة وصحيحة ثم تقفز إلى معاني ومعتقدات خطيرة وإلحادية، فمن زعم أنه يستطيع الانتقاء من كلامهم وتمحيصه وليس له علم تفصيلي يتسلح به، فإنه حتما سينزلق وهو لا يشعر، وصدق القائل اسمع لمن شئت وانتقِ الصواب ودعِ الباطل، إلا الباطنية فدعهم جملة وتفصيلا.