الكاتبة: عبير الحمزة
قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ قارونَ كانَ مِن قَومِ موسى فَبَغى عَلَيهِم وَآتَيناهُ مِنَ الكُنوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنوءُ بِالعُصبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفرَح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ وَابتَغِ فيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحسِن كَما أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ قالَ إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِندي أَوَلَم يَعلَم أَنَّ اللَّهَ قَد أَهلَكَ مِن قَبلِهِ مِنَ القُرونِ مَن هُوَ أَشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأَكثَرُ جَمعًا وَلا يُسأَلُ عَن ذُنوبِهِمُ المُجرِمونَ﴾ [القصص: ٧٦-٧٨].
في قصة (قارون) عِبرٌ يعجبُ منها كل ذي لُب، ومواعظُ توقظُ فؤاد من كان له قلب!
وهي وإن كانت في هذا كسائر قصص القرآن الكريم، إلا أنها في موضوع هذه السطور قد تكون أكبر موعظة، ولا يحل محلها أي نوع من التنبيه والتحذير.
أظن أيها القارئ الكريم أنك قد اطلعت أو مر معك ما يسمى بـ(قانون الجذب) وما يشبهه نحو: (قانون الامتنان، قانون النية، قانون الاستحقاق، قانون الوفرة) وغير ذلك، وهي مبادئ وتطبيقات يرددها بعض المهتمين بتطوير الذات، ومجالات الاستشارات الحياتية، وتقديم الدورات الاجتماعية وأشباهها، ويصورونها على أنها من قوانين الكون وسنن الحياة، بينما هي في الحقيقة تعاليم مقتبسة من أديان وضعية منطلقة من عقائدها حول أصل الكون ونشأة الحياة، ومؤطرة بإنكار أهلها للبعث والجزاء، واعتقادهم بأن الحساب محصور بالـ(كارما)، القانون الهندوسي البائد، والذي ينقله المتحدثون عن الجذب باسمه ومعناه؛ ويستدل عليه بعضهم من الكتاب أو السنة!
لقد مضت سنة الله تعالى في خلقه بانتظام النتائج عند حدوث مقدماتها، ووقوع الآثار مترتبة على أسبابها، ومن جملة الأسباب ما سنه الله – عز وجل- في خلقه من قوانين، ودبّر به مخلوقاته في أحسن نظام.
وهي تعرف بدلالة الحس أو الخبر، ويدل عليها السليم من العقول والفطر، وليس في فلسفات الجذب والامتنان والاستحقاق والكارما وأخواتهن ما يدخل ضمن الأسباب الشرعية، ولا يعتبر من الأسباب المادية؛ لا فرضية ولا نظرية، فضلا أن يُعد في المسلّمات والحقائق، وأن يُنتحل له مصطلح (القوانين الكونية)!
فلم يُرشدنا الشارع الحكيم إلى أن نردد توكيدات الجذب لكي نحقق ما نريد، ولا دلّنا على تقديم الامتنان إلى الشجر والحجر والمطعم والملبس؛ ولم يرد أن رسول الله ﷺ أخبر أصحابه عن (السر) الذي يزعم أهل الجذب أنهم كشفوه للعالم بعد أن كان خفيّا!
بل لقد هدانا الله بالإسلام إلى أعظم الأسباب، وأقرب وسائل الفوز بالخيرات ودفع الشرور والآفات (الدعاء)، فهو سبيل المهتدين، وأولياء الله الصالحين، ولم يمنعنا من بذل ما يسّر من الأسباب، وأحلّ من المؤثرات، التي يرجع في ثبوت مشروعيتها، أو إثبات تأثيراتها إلى أهل الاختصاص الأمناء فيه.
وقد جاءت الشريعة بحماية حمى التوحيد، وسلامة جنابه، وسد منافذ الشرك وغلق أبوابه، فمنعت من كل سبب محرم حتى لو لمس صاحبه منه نفعا، أو توهم من ورائه تحصيل مطلب.
قال الله جل وعلا: ﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فيهِما إِثمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثمُهُما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩]، ورغم ما ذكره الله تعالى للخمر من منافع إلا أنه منع من اتخاذها سببا، وحذّر منها غاية التحذير: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فَاجتَنِبوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ إِنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أَن يوقِعَ بَينَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغضاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهونَ﴾ [المائدة:٩٠-٩١].
وفي الباب ما ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: “إنَّ الرُّقى، والتَّمائمَ، والتِّوَلةَ شِركٌ قالَت: (امرأته) قلتُ: لِمَ تقولُ هذا؟ واللَّهِ لقد كانَت عيني تقذفُ وَكُنتُ أختلفُ إلى فلانٍ اليَهوديِّ يرقيني فإذا رقاني سَكَنت، فقالَ عبدُ اللَّهِ: إنَّما ذاكَ عمَلُ الشَّيطانِ كانَ ينخسُها بيدِهِ فإذا رقاها كفَّ عنها، إنَّما كانَ يَكْفيكِ أن تَقولي كما كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يقولُ: أذهِبِ الباسَ ربَّ النَّاسِ، اشفِ أنتَ الشَّافي، لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادرُ سَقمًا“. [أخرجه أبو داود وصححه الألباني].
إن مختصر القوانين الكونية الروحانية من الجذب وتوابعه، عبارة قام عليها المروّج الأكبر لهذه الفلسفة (كتاب السر) وهي “اطلب، آمن، استقبل”، ويصرح الكتاب بأن الطلب إنما يُوجّه إلى “الكون”، ويجزم بأن الكون سوف يستجيب لأفكار من يحسن توجيه الطلب إليه، وأن من يؤمن بهذا المعتقد فما عليه إلى أن يستقبل أمنياته!
ومجملُ المعاني التي عُرّف بها جذب القدر -على اختلاف أصحابها- تدور حول كون الإنسان هو المتحكم بواقعه بشكل كلي، وذلك من خلال أفكاره، أو مشاعره، وهذا مبني على أصل المعتقد الذي ينطلق منه أرباب فكرة الجذب الأصليين من أهل الأديان الشرقية (عقيدة وحدة الوجود)، ويلبّسون هذه المفاهيم الباطلة بما يسهم في قبولها من مصطلحات علمية مزيفة المعاني، مختطفة الألفاظ كالذبذبات، والطاقة، والمجال وغيرها، وقد فنّد عدد من أهل الاختصاص بالعلوم التجريبية مزاعم أهل الجذب وانتحالاتهم وتزييفاتهم العلمية، منها مقال للمهندس (د.طلال العتيبي)، (الرد العلمي على “قانون الجذب” والذبذبات والطاقة)، والذي قال فيه: “علميا ما يسمى (قانون الجذب) ليس قانونًا”.
ومع بطلان الأساس العلمي لـ(قانون الجذب) فإن ما فيه من مخالفات شرعية، ومنازعة للخالق المالك المدبر -جل جلاله- في أخص خصائص ربوبيته يكفي في رد أبناء الإسلام له، فإنه تحقيق وتطبيق لما قص الله علينا خبره في قصة قارون، ومن سار على نهجه من الجاحدين الظالمين، الطاغين المتكبرين.
وقد ورد جحود الإنسان لنعم ربه التي أغاثه بها بعد اضطراره في مواضع عديدة من كتاب الله تعالى، منها قوله -سبحانه وتعالى- في سورة الزمر: ﴿وَإِذا مَسَّ الإِنسانَ ضرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيبًا إِلَيهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعمَةً مِنهُ نَسِيَ ما كانَ يَدعو إِلَيهِ مِن قَبلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندادًا لِيُضِلَّ عَن سَبيلِهِ قُل تَمَتَّع بِكُفرِكَ قَليلًا إِنَّكَ مِن أَصحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨]، وقوله -عز وجل-: ﴿فَإِذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلناهُ نِعمَةً مِنّا قالَ إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ وَلكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمونَ قَد قالَهَا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَما أَغنى عَنهُم ما كانوا يَكسِبونَ﴾ [الزمر: ٤٩-٥٠]، وقد جاءت هاتان الآيتان ضمن سورة عظيمة أصلت لتوحيد الله جل وعلا في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته في سياق عظيم، وإحكام متين، يجد من يحسن التدبر بعده لذة الإيمان بالقدر، ويُدرك أن ما يخفى على عقولنا القاصرة من حكمة الحكيم الخبير فوق ما ندركه!
فالله هو الخلاق الرزاق، المدبر الوهاب: ﴿أَوَلَم يَعلَموا أَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ [الزمر: ٥٢].
والمسلم عبد الله الموحد له، يسمو بعقيدته عن خرافات الشرق والغرب، ويرتفع بخضوعه لربه -تبارك وتعالى- عن تأليه نفسه، ويستعيذ بربه من ضلاله وجهله، ويبرأ من حوله وقوته، ويستشعر لذة الإيمان بهذه المعاني العظيمة وهو يردد كل يوم ما ورد عن نبيه ﷺ: «يا حي يا قيّوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين». [أخرجه النسائي وصححه الألباني].
وفي هذا كلام نفيس للشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- قال فيه: “احمد الله على نعمة الهداية، واعلم قدر نعمة الله عليك بذلك، واعلم أن له سبحانه وتعالى أكبر المِنّة عليك؛ لأنه لو شاء لأزاغ قلبك -والعياذ بالله- ولا تعجب بنفسك، ولا تقل: هذا مني، فتكون كقارون الذي قال: ﴿إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِندي﴾ [القصص: ٧٨]. وإذا اعتقدت هذه العقيدة صِرت تلجأ إلى الله عز وجل أن يثبتك دائماً، فإن «قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء». [أخرجه مسلم]. فكلُّ العباد قلوبهم بين أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف يشاء؛ إن شاء أزاغها، وإن شاء هداها، ولكن الزيغ له سبب كما قال تعالى: ﴿فَلَمّا زاغوا أَزاغَ اللَّهُ قُلوبَهُم وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ﴾ [الصف:٥].” شرح الكافية الشافية (١/ ٢١٧-٢١٨).
وهذا من جُملة الأسباب، والسنن التي سنها في خلقه، والقوانين التي مضت سنته بوقوعها في عباده، وهو ما حصل للطاغية (قارون) عندما اتبع قانون الاستحقاق، وقال ﴿إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِندي﴾ [القصص: ٧٨]، قال تعالى:﴿فَخَسَفنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرضَ فَما كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرونَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنتَصِرينَ وَأَصبَحَ الَّذينَ تَمَنَّوا مَكانَهُ بِالأَمسِ يَقولونَ وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَينا لَخَسَفَ بِنا وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكافِرونَ﴾ [القصص:٨١-٨٢]، فانظر كيف كانت العاقبة، وسل الله العفو والعافية، واربأ بنفسك أن تضل مع القوم الضالين.
رابط المقال pdf : اضغط هنا