“لحظة من فضلك” هي دعوة للتوقف والتبصر في الأمور قبل الإقدام، ودعوة لتجديد النية واستحضار معاني العبودية في كل حركة وسكنة.
هي دعوة تربوية دينية مستنبطة من حديث رسول الله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى» يعززها الفهم لقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه).
“لحظات التوقف” كانت منهجاً متبعاً عند أخيار الأمة على امتداد التاريخ فهذا الحسن البصري يقول: “رحم الله امرئ وقف عند همه فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف”. وذاك ابن السماك يقف عندما يدعى لأمر يعتاد الناس في حياتهم ممارسته ويُسأل فيقول: “وقفت أحدث لنفسي نية صالحة” .
وعندما تشتد المحن، وتدلهم الفتن، وتختلط الأمور، ويشتبه الحق بالباطل، عندها تشتد الحاجة إلى الوقوف، لطلب العون من الله ولاستبصار حقائق الأمور، وتبين طريق الحق، واللسان يلهج داعياً بقلب مخبت متضرع: ” اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، “ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”، “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”.
هذا وإن من الأمور التي نود أن نذكّر القارئ الكريم بضرورة الوقوف عندها طويلا، أو الإعراض عنها سريعاً تلك الوافدات الفكرية العقدية التي كثرت تطبيقاتها وتنوعت صورها ما بين دورات تدريبية تثقيفية، وما بين وصفات استشفائية علاجية أوغذائية أو رياضية، فقد انتشرت مؤخرا -في بلادنا وعمت بلاد المسلمين حولنا- دوراتها التدريبية [1] التي تلبّس ظاهر كثير منها بالنفع وفي حقيقتها شر مستطير، يمتزج فيه الشرك بالوثنية من فلسفات الصين والهند وإن كان لا يظهر واضحاً في بعض التطبيقات والتمارين مما لبّس على كثير من الدارسين لهذه الدورات بل والمدربين الذين أحسب أن المسلمين منهم -أصلحهم الله- يظنون فيها نفعاً للبلاد والعباد.
وهي دورات متغيرة الأسماء والشعارات من يوم ليوم، ومن مركز تدريب لآخر إلا أنها بكل الصور المتغيرة تدور حول فلسفات وتعاليم الديانات الصينية والهندية التي تنبع من فكر مشّوه للإنسان والكون والحياة والعلاقة بين الإنسان والكون، فكانت فلسفات مصادمة لعقيدة الألوهية، متشوّفة لاقتحام عالم الغيب عن طريق تقوية قدرات الروح والعقل -بزعمهم-.
وتعتمد كثير من هذه الأفكار العقدية الوافدة على تصورات الطاويين[2] الأوائل ومعتقداتهم كفلسفة الأجسام السبعة والجسم الأثيري ، وجهاز الطاقة ومنافذه المهمة “الشكرات”[3] ، وما يتبع ذلك من دعاوى أسرار الطاقة الكونية، وفكرة الكلي الواحد “الطاو” أو “الماكرو” [4]، وفلسفة طاقة قوة الحياة “البرانا” و”مانا” و”ki-chi-Qi”، ودعوى ضرورة توازن القوى الثنائية “الين واليانج” للسمو و”النرفانا” بمفاهيم الطاويين والهندوس والبوذيين ومن تأثر بهم من أهل التصوف ووحدة الوجود. ومن تبعهم من الغرب الذي أضنته الحياة في ظل الماديات المقيتة.
كما تعتمد في طريق تدريباتها تمارين الاسترخاء والتنفس التحولي (التجاوزي) العميق والتأمل الارتقائي البوذي مستخدمة عبارات وأشكال ورموز وترانيم شركية بوذية أو هندوسية، وتستبدل ذلك أحياناً للمسلمين بتسبيحات وقرآن وذكر ورسوم وأعداد وخطوط للأسماء الحسنى حتى يتم -بزعمهم- تدفق الطاقة الكونية في الجسم البشري ومن ثم يحصل الإنسان على السعادة والصحة والنضارة والسمو الروحي والذكاء الخلاق.
وقد استهوى الأمر البسطاء من الغيورين المسلمين فاستحدثوا ضروباً من دورات التدريب وتمارين الاستشفاء والعلاج بناء على ذات هذه الفلسفة الملحدة “فلسفة الطاقة الكونية” ولكن باستعمال القرآن أو الدعاء والذكر بطرائق بدعية، أو استعمال خصائص مدعاة لبعض الأشكال الهندسية والأهرام والألوان مطعمين ذلك بكلمات دينية (بإذن الله، بقدرة الله) ظناً منهم أن هذه التطبيقات توافق الدين وتنصره وهي في الحقيقة تخالفه وتنقضه، شأنهم في هذا شأن المتكلمين القدامى الذين أخذوا من المنطق اليوناني لنفس الهدف، قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: “كتب المنطق اليوناني فيها من الباطل والضلال شيئ كثير، ومن المسلمين من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم الفلاسفة، ومنهم من لم يقصد اتباعها ولكن تلقى عنها أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره. وكثير منها تخالفه وتخذله مثل أهل الكلام” [5].
“لحظة من فضلك”… هي دعوة للوقوف مع قول الله -تعالى-: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
هي دعوة لتذكر قول أهل العلم: إن قاعدة الكمال في هذا الدين مطردة في كل جوانب الحياة.
هي دعوة للإقبال على مناهج التربية الذاتية وتزكية النفوس، ومناهج التربية الاجتماعية والأخلاقية من المعين الصافي ومصدر المعرفة الحق القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
هي دعوة لاستخراج كنوز الوصفات الاستشفائية للقلوب والأرواح والعقول والأبدان من الوحي المعصوم كتاباً وسنة.
هي دعوة لاستحضار قول الله تعالى: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء}.
هي دعوة لاستحضار تحذير رسول الله ﷺ: «لتتبعن سن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه».
لحظة من فضلك… فالغزو الفكري العقدي في صورة هذه المذاهب الروحية الفلسفية الحديثة يتسلل إلى بيتي وبيتك عبر شاشات الفضائيات في البرامج والأفلام الكارتونية والإنترنت وعبر ألعاب الأطفال، وبطريق وصفات علاجية في كثير من عيادات الاستشفاء البديل، ومن خلال مقالات المجلات والجرائد، متلفعة متلونة على حين غفلة من جند الحق.
فاستمسك بالكتاب والسنة وكن حارساً يقظاً لفكرك وفكر أهل بيتك فلا تجد هذه اللوثات طريقها إليك مهما تزينت وتزخرفت أو تلونت وتنوعت… والله يرعاك.
كتبته: د. فوز كردي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- وهذه المقصودة غير تلك الدورات التدريبية النافعة المتوافقة مع ثوابت ديننا بقوالب جديدة وطرائق عرض عصرية كالدورات التربوية في تربية الذات وتحديد الأهداف، وتربية الأبناء وفن التعامل مع فئاتهم العمرية المختلفة، وتنمية المهارات التفكيرية والقدرات الخطابية ونحوها.
٢- الطاوية هي دين الصين القديم.
٣- كلمة سنسكريتية تعني العجلة (الدولاب) (Wheel or Vortex). وهي منافذ تصل جسم البدني بالجسم الأثيري وتسمح للطاقة الكونية بالتدفق فيه بشكل لولبي لتمنحه الصحة والسمو الروحي والذكاء الخلاق -حسب معتقدهم الباطل- ولكل شكرة إله (طاغوت)، ولما كانت فكرة الألوهية ملغاة من معتقدهم فهم يستعيضون عنها بألفاظ أخرى كـ”قوة” أو “رمز “ونحو ذلك. وهذه النقطة (علاقة الشكرات بالمعتقد) لا تذكر عند المعلمين والمدربين من المسلمين لهذه التطبيقات والعلوم ويضيفون بعض الجمل مثل بإذن الله عند إثبات نفع لهذه الشكرات! كما يعرضون موضوع الجسم الأثيري -جهلا منهم- على أنه حقيقة علمية!
٤- فكرة بديلة عن عقيدة وجود الله ووحدانيته وألوهيته، قد تبدو بالنظرة السطحية مشابهة لها، لكن حقيقتها لدى المتبصر مناقضة لها تماماً.
٥- انظر مجموع الفتاوى 9 / 266.