لقد كان مما داخلتْهُ لوثةُ التجديد والتحديث، ذلك الذنبُ العظيم الذي لا يغفرهُ الله سبحانهُ وتعالى، فصاحبهُ مخلدٌ في نار جهنم – والعياذُ بالله-، حيثُ الجنَّةُ حرامٌ على المشرك: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) المائدة (72).
بيد أن اللافت حقاً، أن لوثاتِ التجديد والحداثة في غالبِ واقعها -إن لم تكن جميعها- هي مما وفد إلى الشرق من الغرب!. ومن ذلك “الشركُ الجديد”، ولا عَجَبَ!، لأن المصدر – الغربي – في أصلِهِ وغالبهِ يعُجُّ بالوثنية والشرك. فلا يُنتظر بطبيعةِ الحال أن يتولّى مشركٌ تعليم التوحيدِ وتقريرِ أصولِهِ وقواعده!.
لكن العجيب فعلاً؛ أن يتلقَّفَ أبناءُ دينِ التوحيد تلكَ اللوثات الفكرية فيُنزلونها على واقعِ حياتهم ومعيشتهم، دون أن يشعروا أنهم يفترشون الشرك ويتدثَّرونَ بدِثَارِه!. ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا( ..
تلك التسميات المموهة العائمة – كمصطلحي الطاقة السلبية والإيجابية-، ليست مما خَضَعَ، أو يمكن أن يخضع للتجربة الصحيحة!، وما تطبيقاتها في الحقيقة إلا بناءٌ متهالك على أساسٍ هَشّ من الاعتقادات الغريبة فيما حولنا من الأشياء والبيئة المحيطة، بُني عليها ما لم يثبُتْ لا نصاً، ولا تجربةً صحيحة – وهي التجربة الخالية من معارضةِ النص الشرعي إن وُجِد!-.
وعليه فلا تخلو تلك التطبيقات من كونها تخرُّصاً وتخميناً محضاً، يرفُضُها العقلُ السليم إن كانتْ مجردة عن الفائدة أو العقلانية، فكيف إن كانتْ سبيلاً للشرك والوثنية في ثوبهما الجديد؟!. ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام (153)
وقبل تناول الأمثلة أودُّ التنبيه على قاعدة شرعية مهمة، مفادها أن:
“جعل ما ليس سبباً سبباً شرك”.
كأن يتداوى أحدهم بحجارة!، فهذا شرك لأن الحجارة ليستْ دواءً يُستطبُّ به.
ويدخُلُ في هذا مُختلفُ التمائم التي يتم تعليقها لدفع العين أو الحسد، لأنها ليستْ حروزاً معتبرة شرعاً لعلاج العين أو الحسد أو دفعهما ابتداءً، وما دامتْ كذلك فهي شرك.
وأما المعتبر شرعاً فهو التحصين الشرعي ابتداءً للوقاية، و الرقية الشرعية علاجاً. مع جملةِ ضوابط شرعية أيضاً – لا يوجد من بينها البته تعليق أشياء أو التسوُّر بها في اليدين، أو اللبس في أيٍ من أجزاءِ البدن!-.
قبل أيَّام تداولت وسائل التواصل مقطعاً يتناول الحديث عن فائدةِ الخشب والأحجار والشمع لجلبِ الطاقة الإيجابية في المنزل!، و بالمقابل طرد الطاقة السلبية من البيت عبر استخدام الملح في زوايا الغرفة والابتعاد عن المقتنيات “البلاستيكية” والرُخام والبخور بصفتها جوالب للطاقة السلبية!، ناهيك عن الحركة الدائرية بعكس عقارب الساعة!.
وهنا نلْحظُ وجود أساس من الاعتقادات التي وقرت في القلب، فاتُخِذتْ التطبيقات الآنفة بناءً عليها.
1- اعتقاد وجود طاقة سلبية ينبغي تبديدها!!. وهُنا نتسائل: ما هو تعريف الطاقة السلبية وحدودها المنضبطة؟! .. هل المقصودُ بها الشياطين مثلاً؟!.
فالدواء الشرعي لطردِ الشياطين وإراحة القلب دوامُ ذكرِ الله وتلاوة القرآن وعمل مختلف الطاعات، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وهذا مقرر شرعاً ومُشاهد واقعاً؛ فالبيوت التي تخلو من أسبابِ المعصية وتتوافر فيها أسباب الطاعة، هي بيوتٌ مطمئنة يرفُلُ أهلها في أثوابِ السعادة والسكينة والدعة والهدوء النفسيين كل حين.
كما ورد عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلـم: “لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة “. رواه مسلم
أم يُقْصَدُ بها الأمراض؟!، أم العين والحسد؟!، أم السحر؟!، أم الشعور بالهم والحزن؟!. فإن كانت هي تلك المعاني، فلكلٍ منها دواؤهُ الناجع الفعَّال من مشكاةِ الوحي والشريعة، ومن ثَمَّ فلا حاجةَ إلى غيره.
فكيف إن كان واقعُ ذلك الغير أنهُ شركٌ محض؟!.
في الحقيقة إن تأمّلنا الأمر، نجدهُ لا يعْدو تغييراً ظاهرياً طرأ على شكلِ التميمةِ الشِّركية، فغدتْ أثاثاً يتعلَّقُ به اعتقادٌ قلبي، بعد أن كانت قطعةً صغيرة يحويها جزءٌ من البدن .. لا فرق على الحقيقة!.
فالأسورة النحاسية الملبوسة في المعصم من الواهنة، وأساور الطاقةِ المزعومة، لم يطرأ عليها إلا أن أصبحت قطعةً فنية، أو أثاثٌ منزلي مُودعٌ في جانبٍ من البيت، أو أحجار كريمة في ناحيةِ الغرفة، تؤدي دور الإسورة ذاتُه؛ إما جلبُ نفعٍ أو دفعِ ضُر!!.
لنتأمل ردةُ فعل النبي صلى الله عليه وسلـم لما خرج إلى حنين فمرَّ بشجرةٍ خضراء عظيمة تُشبهُ شجرةً للمشركين يُقال لها ذات أنواط؛ يعلقون عليها أسلحتهم ويعظمونها يوماً من السنة. فقال من معهُ من الصحابة: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله، هذا كما قال قومُ موسى: ) اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم”. رواه أحمد والترمذي
وفيما بين أيدينا من حديثِ الطاقة بنوعَيْها المزعومَيْن شِبهٌ بذلك وأيُّ شبه ..
وليست الاستعانة بعناصر الطبيعة لجلبِ نفع أو دفع ضُر إلا ذات الأنواطِ في صورتها الحديثة ..! ..
2- اعتقاد وجود طاقة إيجابية ينبغي جلبها!. فيُقال: عرِّفوا لنا معنى الطاقة الإيجابية تعريفاً منضبطاً واضحاً لا مِريةَ ولا لبس فيه، بحيث لو شئنا عينةً من “الطاقة الإيجابية” لتخضع في معمل التجريب، أمكن الحصولُ عليها على النحو الذي يمكنُ الحصول على عيِّنَاتِ التجارب من العناصر في المعامل والمختبرات!!. لا يوجد ..! ..
فمثلاً؛ هذه عينةٌ من “الزئبق”، إننا نراها ونستبين ونتلمَّسُ خصائصها بالحواس.
أو “الطاقة الشمسية” مثلاً؛ من يقف تحت الشمس يجد حرارةَ تلك الطاقة ويشعرُ بها.
فأنَّى لنا الشعورَ بالطاقةِ الإيجابية؟!.
وماذا تقصدون بها؟!.
أهي طمأنينة القلب؟!، أم سكونُهُ؟!، أم الهدوء؟!، أم الراحة النفسية؟!، أم السعادة؟!.
فلكلِ تلكم العوارض مجالبها الشرعية على أساسٍ من التوحيد، وجامعها الغذاءُ الإيماني وتعلُّق القلب بالله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) محمد (2) ..
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل (97)
ختاماً:
أيُّ قطعةِ أثاثٍ منزلية قابلة لأن تكون وثناً يُعبدُ من دونِ الله عزوجل، إن صُرِفَتْ إليها عبادةٍ قلبية مما لا ينبغي صرفهُ وتوجيههُ إلا إلى الرب وحدهُ جل جلالـه!.
فتميمةُ الشرك لم تعد محصورة في تلك الصورة القديمة البسيطة التي كانت أيَّام مشركي قريش!، ولكن أضفت عليها لوثة الماديةُ المعاصرة بهرجة وألواناً وأنواعاً وخصائص مزعومة ومسمياتٍ موهومة، تُضاهي في جمال مظهرها جمال شجرةِ ذات أنواط العظيمة الخضراء!.
لتلتبس حقيقتها على عامةِ من يراها ..! ..
اللونُ ذهبٌ أو فضةٌ مموَّهة .. والجوهرُ خشب!.
قال صلى الله عليـه وسلم: “الشركُ فيكم أخفى من دبيبِ النملِ”. حديث صحيح.
فمن اعتقد مثلاً أن سريرهُ أو كُرسيَّهُ المصنوعان من خشبٍ ذا خصائص – حقيقية أو مزعومة-، يجلبُ لهُ الراحة والسكون ويمنحُهُ نوماً هادئاً هانئاً لتلك الخصائص التي يعتقدها فيه!، أو يدفعُ عنهُ شر المنغصات من كوابيس وأحلام مزعجة، أو يمنحهُ نشاطاً وقوة وحيويةً سائر اليوم، ففي الحقيقة لديهِ وثنٌ في الغرفة أو البيت، يصرفُ إليهما أعظم أنواعِ العبادات، وهي أعمالُ القلوب!. فإن المشركين الأُوَل لم يكونوا يعبدون صورة الطين المنحوت والحجارة!، وإنما تعلَّقتْ قلوبهم بها وظنوا أنها تملكُ نفعاً أو ضراً، ثم ترجموا ذلك التعلّق القلبي سلوكاً وعبادة.
وأما القول بأن تغير الملح نداوةً أو هيئة يدلُ على وجود طاقةٍ سلبيةٍ في البيت، فالسُكَّرُ كذلك تتغيَّرُ هئيتهُ رطوبة ونداوة بحسبِ رطوبةِ الجو وجفافه!.
بل العناصر المختلفة!، ولذا يتم تفريغ الهواء عند تعبئة المنتجات لئلا تُفسدها الرطوبة!، أفطاقةٌ سلبيةٌ في المنتج؟!!.
أما الشمع وهيئةُ إطفاءه، فمتعلِّقٌ غالباً بطقوسِ النار الوثنية عند من يعبدونها. فمنعُ الإطفاء أو الرفق في الإطفاء كلُ ذلك مما لا يخلو من اعتقاداتٍ وثنية في الأديان القديمة!.
وأما المقتنيات البلاستيكية وجلبها للأضرار، فغير ثابت واقعاً!، وأكثرُ المحال التجارية امتلاءً بالمنتجات “البلاستيكية” هي محلات الأثاث المنزلي، ومتاجر المستهلكات والمواد الغذائية!، وهذه المحال يجد فيها روَّادها متعةً في التسوّق كما يُصرِّح كثيرٌ منهم!. ولا يشكو باعتها من وجود الأذى المعنوي أو الشقاء النفسي بسبب وجود “البلاستيك” بكمياتٍ كبيرة، حتى عُبوات حفظ الأطعمة!.
وأما الرخام والبخور فدليلُ الواقع يشهدُ بخطأ المعلومة!، فقاعاتُ الأعراس والمناسبات الجميلة تزدانُ و تبلغُ أوجَ بهائها مع فَوْحِ رائحةِ الطِيبِ من مجامِرَ أُعِدَّتْ لاستقبالِ عروسِ الليلةِ البهيَّة!. ومعلوم أن القاعات تكونُ مُغلَّقة في أغلبِ التصميمات إن لم تكن كلها!.
فأين الطاقة السلبية هاهنا – التي يُحتاج معها لفتح الأبواب والنوافذ!-، والجميعُ فَرِحٌ مبتهج؟!.
كما لا ننسى أن تلك المجامر لم تَقصد حاملاتها من النسوة الدوران بعكس عقارب الساعة!.
إن من احترامِ العقل سَوقُ الأدلةِ الواضحة شرعاً أو واقعاً؛ أو تجارباً علميةً صحيحة ممكنة القياس والتطبيق!، لا القولُ جُزافاً؛ (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) البقرة (111)
وبعد ..
الله الله في تحرّي العقيدة الصحيحة ونبذ الشرك والبُعد عن لوثاتهِ الخفيَّة المستترة، التي قد تخفى أو تلتبس على البعض. فإن تحقيق العبودية لله تعالى وإفرادهُ سبحانهُ وتعالى بالعبادة؛ قلباً وقولاً وعملاً هو التوحيد ومقصدُ دين الإسلام الذي شرَّفنا به المولى عزوجل.
وهو المعوَّلُ لحسنِ العاقبة في الدنيا والآخرة ..
ليس معبودٌ إلا الله عزوجل ..
ولا أنفع للقلب من التعلق بربه سبحانهُ وتعالى ..
لا صنمٌ، ولا عنصرٌ في الطبيعة!، ولا ملكٌ مقرب أو نبيٌ مرسل، ولا جآن.
قال تعالى: ) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ( الأنعام (71)
وقال سبحانه: ) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( يونس (107)
وكما قال الامام ابن القيِّم: “فكل إسلامٍ ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع، حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن”.[2]
والمقصود أن عبادات الجوارح إن خلت من عبادات القلب لا تنفع ..
فكيف إن وقع القلبُ في حبائل الشرك لقلةِ العلم الشرعي؟! ..
الظاهرُ عبادةُ جوارح، والباطنُ تعلُّقٌ بغير الله؛ بملحٍ وخشب! ..
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
________________________________
الكاتبة: د. مريم تيجاني
[2] الفوائد.الشركُ الجديد .. وتمائمُ الخشب!