تساؤلات حول فوائد ومحاذير البرمجة اللغوية العصبية

المشاهدات : 848
انتشر بين بعض المثقفين فن جديد يعرف بالبرمجة اللغوية العصبية والمعروف اختصاراً بـ(NLP) أو مايسميه بعضهم بالهندسة النفسية، وهو فن نفسي سلوكي إدراكي شعوري، يحتوي على مهارات جديدة ومعلومات مفيدة، ويتناول النفس البشرية ومتعلقاتها ومناشطها الماضية والمستقبلية.

ولا ريب عند من اطلع على هذا العلم ودرسه أو تعرف على آلياته ومهاراته إن فيه منافع كثيرة ، وتحصل من جرائه مصالح واضحة.ولست هنا بصدد الدعاية له والإشادة به ، فعند المؤسسات التدريبية وعند المدربين الهواة والمحترفين من وسائل الدعاية والجذب والتحفيز لهذا الفن ما لعله يغلب دعايات بعض المشروبات المشهورة، ولكن الذي أنا بصدده في هذا المقال، طرح بعض الأسئلة التى أرى أنه ينبغي . طرحها سعياً للوصول إلى مزيد من إيضاح المبهم،  وتفصيل المجمل، وكشفاً لشبهات تحوم حول هذا الفن لا يعرفها كثير ممن يدرسه أو يدرب عليه، وفي تقديري إن الأسئلة والحوارات تثري وتظهر معالم طريق الحقيقة، ويجب الا تزعجنا هذا إذا كنا طلاب حق ومرتادي حقيقة ، ودعاة صلاح وإصلاح.

أولاً : تساؤلات أولية:

وفي البداية نسأل المحبين لهذا العلم : هل أخذ موضوع البرمجة اللغوية من الدعاية والإطراء ما جعله يتحول عند المعجبين به والمغرمين بموضوعاته إلى ثقافة بديلة؟ ثم لماذا كل هذا النشوة العارمة التى جعلت أكثرهم يقتفي أثر هذا الفن بتسليم إذعاني، من خلال انقياده لجاذبية الإقبال على هذه (الموضة) الفكرية الشعورية السلوكية؟ وهل يستسقي بعض أصحاب البرمجة اللغوية (دعوى) التميز من خلال آلية في البرمجة اللغوية نفسها تخضعهم قناعة ثم شعوراً ثم سلوكاً لهذا الفن ومعطياته وبرامجه  وآلياتة ؟

وفيها بلا ريب ما هو حق وصدق ونافع مفيد، كما أن فيها ما هو ملتبس مشتبه .  والسؤال المشروع هنا: هل  أذهان المعجبين به  غطتها زركشات الإعجاب؟  حتى أصبحت لا تستوعب مقدار تبعات التحول إلى ثقافة بديلة؟ وكيف نستطيع فهم موقف بعض الأشخاص الذين استعاضوا به عن الثقافة الشرعية ، ويمموا وجوههم شطر البرمجة اللغوية فأهملوا العلوم الشرعية، وقلّت صلتهم بالقران والسنة، وسير السلف الصالح، وعلوم الإسلام وكتب الدعوة والتربية والثقافة الإسلامية، ولدي معرفة وثيقة بحالات من هذا القبيل، رأيتها بعين الإنصاف والتجرد، وليس بعين البغض التي تستخرج المساوئ،ولا بعين الرضا التي هي عن العيوب كليلة.

ورأيت آخرين أهملوا حتى تخصصاتهم العلمية والعملية حين اتجهوا لهذا الفن اتجاها فكريا أو كسبيا!

ولنا أن نسأل: ما السر في أننا أصبحنا نرى أشخاصاً كانت لهم مواهبه شعرية وأدبية وثقافية أو دعوية فلما أتى عليها طوفان البرمجة اللغوية أصبحت أثرًا بعد عين؟

يجيب على هذا السؤال شيخ الإسلام في الاقتضاء 2/483-484 (قال ابن مسعود -رضي الله عنه- ويروى مرفوعا:  [إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن]، ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه، ويكمل إسلامه،.

ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع،  ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثير) وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ظاهر وواضح في سلوك المغرمين المتحمسين لعلوم الغرب، المشتغلين بها، حتى لاتكاد تسمع في كلماتهم  واستشهاداتهم إلا أسماء الغربيين وعباراتهم وتجاربهم ومجريات حياتهم وقصص إنجازاتهم ونجاحاتهم وفضائل صفاتهم ونحو ذلك من التمجيد الذي يوجب المحبة والإقتداء والميل والأنس، ومن أمثلة ذلك ما  قام به أحد المدربين المسلمين  حين عرض صورة مدربه الغربي وزوجته وذريته أمام المتدربين،مفتخرا به معتزا، وفي المتدربين مَن هو من أهل العلوم الشرعية، وهذا المدرب المسلم فيه خير وإسلام ودين، ومع ذلك وقع في هذا، فكيف لو كان من العلمانين والشهوانيين؟!  وفي هذه العناية بالكتب والمؤلفات والمسموعات والدورات والمدربين والموقع  من التشريف والتعظيم لهؤلاء والتكريم لأقوالهم وأحوالهم ما قد يستوجب ميل القلب إليهم وأنس النفس بهم، وهذا أمر طبيعي في النفوس فإنها متى كررت شيئًا وأدمنت النظر فيه وأكثرت المخالطة له كلما أوجب ذلك لها الأنس والتوقير والمحبة والرغبة في الازدياد، وكم في هذا الأمر من مزالق خطيرة)

ومن مشاهد الاستعاضة عن علوم الإسلام  وآدابه أن بعض المدربين يخلط الرجال بالنساء ،وربما عمل حاجزا رقيقا مثل ثوب الرياء الذي قال عنه الشاعر:

ثوب الرياء يشف عما تحته                            فإذا التحفت به فإنك عاري

وبعضهم قد يباشر الحديث مع النساء لعلاج حالات أو التدريب على مهارات فيحصل منهن الميل إلى هذا المدرب والتعلق به، وهذا أمر طبيعي يحصل بسب الألفة والمخالطة والحديث عن التأثيرات العميقة و المشاعر و حل المشكلات الوجدانية والحياتية،وبعض المدربين يرى أن هذا التعلق عيب في المرأة المتعلقة وليس عيبا في المدرب ، وحاله كحال القائل :

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له         إياك إياك أن تبتل بالما

وما أصدق القائل: (المخالطة  توجب التخليط، وأيسرها تشتيت الهمة وضعف العزيمة، وأقل ما في سقوط الذئب في غنم إن لم يصب بعضها ان تنفر الغنم). بدائع الفوائد ٣/ ٧٥٥.

وكم من زوجة مدرب اشتكت وتذمرت وتمنت أن زوجها لم يتعلم هذا العلم ولا سلك هذا المسلك.

فهل يحق لنا بعد هذه الظواهر أن  نقول بأن البرمجة اللغوية تحولت إلى ثقافة بديلة  بل وسلوك بديل؟ وأن من علامات ذلك أيضا هذا التركيز المبالغ فيه على دورات وكتب وأشرطة ومواقع البرمجة اللغوية العصبية، وهذه الدعاية الهائلة التشويقية والتسويقية؟

حتى ليكاد يظن الظان وهو يستمع لبعض هؤلاء وهم يركضون بشدة في هذا الاتجاه أن القوم لم يعرفوا قبله ثقافة، ولم يستضيئوا  قبله بضوء علم،  ولم يكن لهم ركن وثيق من المعارف والعلوم والآثار، وأين نحن من كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ، التي فيها الضياء والنور والبيان والخير والبركة والسعادة؟

قد يقول قائل بأن هذا التوسع والشغف و هذا الذي سميته ثقافة بديلة هو عيب في الممارسين وليس عيبا في العلم ذاته.

ولا شك أن  الممارسين المغرمين والمندفعين بلا تحفظ يحملون هذه التبعية، ولكن المؤكد أيضاً أن البرمجة اللغوية ذاتها تؤكد في أدبياتها وبرامجها ومقولاتها وافتراضاتها بطرق إيحائية وبأساليب مختلفة ما فحواه: (إنك لا تنتفع بهذا العلم  ولا تستفيد منه ما لم تكن لديك  القناعة التامة به).

وهذا نوع من التسليمية المطلقة تستهدف إخضاع الإنسان وجذبه بصورة شعورية أو لا شعورية إلى هذا العلم، ولعل  هذا هو أحد أسرار الشغف الهائل والكبير الذي يسيطر على أذهان بعض المطلعين على هذا العلم وخاصة المبتدئين منهم.

ثانيًا:  الأثر العملي والسلوكي:

تساؤل نطرحه حول ما يرى ويشاهد من الحاصل من بعض الدارسين  والمدربين، حيث ألقوا أعنتهم  لمقتضيات ولوازم هذا العلم وانساقوا في ذلك انسياقاً تشكل مظاهره الأولى نوعًا من التغير السلبي. وقد استعمل بعض هؤلاء الآليات والمهارات الموجودة في هذا الفن لتعزيز اتجاهاتهم الجديدة العملية والسلوكية، والتي ليست بالضرورة اتجاهات إيجابية.

وبما أن هذا العلم يعود في مجمله إلى الفلسفة الغربية القائمة على الذاتية والفردية فإن معظم الآثار السلوكية والعملية للمتأثرين سلبًا بهذا الفن اتجهت في الاتجاه الفردي الأناني، وما الميل الشديد للكسب المالي، والتنافس بين المدربين والتلاسن بين أتباع المدارس المختلفة ،والتشكيك في القدرات والمصداقية العلمية إلا أحد الأمثلة على ذلك.

وكذلك السعي نحو الصيت والظهور والشهرة، والانعزال عند بعضهم عن مجالات النفع التطوعي العام، وتقديم دورات ولقاءات البرمجة اللغوية على اللقاءات العلمية والتطوعية والدعوية، والدروس الشرعية، بل والأوراد والأذكر النبوية، وما شابه ذلك من أمور وقضايا ذات نفع مؤكد ومصلحة واضحة وخير ثابت.

ولماذا لو قيل لبعض هؤلاء هناك درس أو موعظة أو جمع تبرعات أو توزيع صدقات أو ندوة ثقافية أو أمسية شعرية ونحو ذلك من الأمور التي كان قبل تعرفه على هذا العلم يقبل عليها ويجتهد فيها؛ تجده الآن يتبرم ويتثاقل ويتخلص ويتملص، وقد لُقن أن من قوة الشخصية أن يقول (لا) بملء فيه، وإذا تضايق منه أحبابه وأصحابه فما عليه إلا أن يقنع نفسه بالمبدأ التالي: ( تقبل الرفض إذا رفضك الآخرون فهذه مشكلتهم ،وهم الذين يعانون).

إن لكل علم وفن ودراسة جانبان من التأثير، الأول: التأثير المباشر بالعبارات والمعاني المباشرة، والثاني: التأثير غير المرئي وغير المنظور، وقد يكون هذا هو الأخطر بسب قوة فعاليته وخفائه.

هل يمكن أن يعد من الآثار السلبية ما يسمع  من أقوال مدرب ينتقص مدربين آخرين، وتلاميذ مدرسة يتهكمون من تلامذة المدارس الأخرى؟ وهل هذا آت في سياق التسابق على كسب الزبائن واحتلال (موقع بسطة) أكبر في سوق التدريب المشحون هو الآخر بالتنافس المالي، والتسابق على المتلهفين إلى (موضات العلوم الجديدة).

وماذا عن المبالغ الضخمة المطلوبة من المتدربين؟ والتي تصرخ بأوضح الدلالات على الروح التجارية المعتمدة على (الشطارة) والاحتكار والمهارة في التسابق على الزبائن قبل أن يكثر المدربون فتنخفض الأسعار؟ وهل يحق لنا بعد هذا الوصف أن نقول بأن الذاتية والأنانية ألقت بضلالها على قضايا ليست في الأصل بضاعة تجارية، فأفسد البَرَدُ ما أصلح الغيث؟

وهل من الأثار العملية والسلوكية: ظاهرة الاعتزاز المفرط بهذا العلم وآلياته عند البعض؟ وهل من أدلة ذلك ما  نسمعه من بعض متعلمي هذا العلم صراحة أو بلحن القول من تهوين للآخرين ، والإشارة إلى سذاجتهم  وضعف تصوراتهم وضآلة تقديراتهم للأمور والأحداث والأشخاص، ليس لأنهم  جهلوا العلوم الشرعية، أو الخبرات العملية، أو الثقافات العلمية،  بل لأنهم لا يعرفون البرمجة اللغوية؟!!

وها هنا ملحوظة أتساءل عنها -وهي موجودة بصورة محدودة-  وهي بخصوص ضعف السلوك الديني عند  بعض المهتمين بالبرمجة اللغوية ،فلان كان حريصًا على صلاة الجماعة فأصبح لا يرى في المسجد إلا لماما، وفلان كان محبًا للقرآن، وكان المصحف لا يكاد يغادر جيبه، والآن أصبحت جيوبه متخمة بكتب البرمجة وعلوم النفس والسلوك المترجمة والمقتبسة، وفلان كان يطالع كتب أهل العلم من فقه وأصول وتوحيد وحديث، فأصبح لا يلوي عليها إلا قليلا (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: من الآية61).

ثالثًا:  الأثر العلمي والفكري:

مما لاريب فيه عند كل دارس للمناهج والاتجاهات أنها تتأثر ببيئة نشأتها وبالأفكار والقناعات السائدة في بلد النشأة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بدراسة نفسية الإنسان وسلوكياته وأخلاقه، وهو الأمر المحوري في البرمجة اللغوية العصبية.

فهل من الكياسة أن نأخذ البرمجة اللغوية على أساس أنها مجرد مهارات أو أدوات محايدة تماما؟ ليس لها علاقة بالرؤية الغربية الشمولية ،ولا بالمنظومة المعرفية القيمية حيث نشأ هذا العلم وترعرع؟

وحتى نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، والتعرف على ما يمكن تسميته العلاقة العضوية بين البرمجة اللغوية العصبية والبيئة التي نشأ فيها سنأخذ التعريف الأكثر تداولا للعلمانية في محاولة  لفهم المعنى بالشكل الاصطلاحي الحديث ذي الصيغة العامة ،ذات الامتداد السياسي والاجتماعي والفلسفي ،وهو المعنى المبثوث في مفردات الحياة الغربية فكرا وممارسة، بل هو الإطار الأصولي لشتى شعب الحياة  الغربية ومنا شطها.

هناك تعريف وضعه “جون هوليوك” المتوفى سنة 1906 م يقول فيه بأن العلمانية هي: ( الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية ،بدون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض).

والكلام عن إصلاح حال الإنسان لا يمكن أن يكون محايداً، لا من حيث التصورولا من حيث التطبيق والتعريف السابق يفترض وجود مرجعية لإصلاح حال الإنسان ورؤية عامة شاملة للكون والحياة والإنسان ،يمكن ضمن إطارها العام إصلاح حال الإنسان النفسي والسلوكي والاجتماعي والسياسي والفكري.

من هذا التصور الشمولي للعلمانية يمكننا معرفة طبيعة النموذج بل النماذج التي انبثقت من هذه الرؤية لإصلاح حال الإنسان في مختلف المجالات، ومنها – ما نحن بصدده – النفسي والسلوكي.

فإذا كانت هذه الرؤية لإصلاح حال الإنسان تتم عبر الطرق المادية فإن ذلك يعني بالضرورة النظر إلى جوهر الإنسان – الذين ستتم عليه الممارسات الإصلاحية المذكورة – بوصف كائنا مادياً، وهذا أيضا يعني أنه وفق هذه الرؤية ستكون الطرق المستعملة في إصلاح الإنسان مادية في مجملها، وإن دخلتها بعض المفردات المعنوية والروحية ،لكنها تظل جزئية غير مؤثرة داخل الإطار العام، وستكون منصهرة داخل هذه البوتقة، وهذا بالطبع توصيف أولي لا يقتضي الرفض لكل ما يأتي من الغرب، بل لا بد من الاصطفاء والانتقاء من خلال التعرف على مكونات الحياة الغربية على وجه الإجمال وهي:

١- حقائق علمية  في حقل الرياضيات والطبيعيات والعلوم الاجتماعية والنفسية، وتسمى حقائق لأنه قد ثبتت صحتها بالبرهان العقلي الصريح أو بالتجربة الحسية المشاهدة.

٢- نظريات عن الطبيعة أو الإنسان أو المجتمع ،منها مالا نقطع بصحته ولا برهان لدينا على بطلانه، ومنها ما هو في طور التجربة ،ومنها ما ثبت بطلانه وفساده.

3 – تقنيات ومنتجات ومصنوعات مادية بحتة أدى إليها تطور العلوم الطبيعية والرياضية.

٣ – مهارات تقنية أو إدارية أو تربوية مبنية على تلك العلوم.

٤ – تصورات دينية أو فلسفية أو فكرية للوجود ومكانة الإنسان فيه ،وللقيم الأخلاقية والسلوكية والجمالية ولعلاقة الإنسان بالإنسان.

٥ – آداب وفنون وممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وعادات وتقاليد تصوغها تلك التصورات المذكورة في الفقرة السابقة.

فأين يقع علم البرمجة اللغوية من هذه الأقسام؟! سؤال يجب أن تعرف إجابته بدقة واتزان وموضوعية بعيدا عن ذوبان المعجبين وتخثر الرافضين.

رابعًا: العلوم المعاصرة بشتى أشكالها وأنواعها لها جوانب عديدة منها المفيد والنافع ومنها الضار ،وأخذها بإطلاق خطأ مثل ردها بإطلاق ،فالأخذ المطلق يؤدي إلى أخذ الضار ،ولبس الحق بالباطل ،والرد المطلق يؤدي إلى إهدار النافع، وتفويت الحكمة التي هي ضالة المؤمن ،وهذه النظرة الأحادية الجانب غلبت على بعض أنواع التفكير المعاصر عند المسلمين، وأدت إلى نظرات ناقصة وجزئية،وجازمة ومتسرعة ،وكأن قضايا وظواهر العلوم والفنون ليس لها غير جانب وحيد، وفي حقيقة الأمر أنه تكاد أن تكون جميع الظواهر الاجتماعية واقتصادية والسياسية والعلوم والفنون الإنسانية متداخلة ومتفاعلة في تكوينها من عناصر عديدة.

إن القراءة المشوشة أو القاصرة أو المبتسرة سواء في جانب القبول أو الرد، تؤدي إلى خطأ منهجي، يحسب أصحابه أنهم قد تملكوا ناصية العلم واكتشفوا كل المخبأ والمستور فيقودهم ذلك إلى تقديس أو تدنيس من خلال نظرية أن الحياة والعلوم والقضايا إما بيضاء أو سوداء ولا وجود للألوان الأخرى.

خامسًا:  في مقابل تلك الأسئلة التي طرحتها أود أن أخاطب الطرف الرافض تماما لهذا العلم وأشباهه من العلوم المستجلبة من الغرب:

فأقول بأنه من ظواهر تغييب العقل المسلم سلبيته إزاء الفكر الإنساني ،والشعور بالاكتفاء المطلق ،وعدم الحاجة إلى الأخذ من حضارة الآخرين ، تحت شعار أن عندنا الكمال كله، كمال في كل شيء ،ومع الآخرين  الفساد والخطاء والانحراف و العيوب، ولئن كنا نعتز بديننا ونعتقد كمال وشموليته ،ولكن ذلك لا يعني بحال أننا لاتأخذ مالدى الآخرين من خير ونفع وحكمة وفائدة،فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهىعن الغيلة ثم أجازها أخذا بنتيجة تجربة عند الكفار من الفرس والروم ،ففي صحيح الإمام مسلم  مانصه باب جواز الغيلة  وهي وطء المرضع وكراهة العزل  عن عائشة عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول(لقد هممت أن انهي عن   الغيلة  حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (  الحكمة ضالة  المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي وابن ماجة

قال شارح بن ماجه (الحكمة ضالة  المؤمن أي كأنه فقدها وأضلها إشارة إلى ما قيل أنظر الى ما قال ولا تنظر الى من قال). وفي تاريخ بغداد للخطيب عن علي بن أبي طالب أنه قال: (الحكمة ضالة  المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك) .

قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة بعد أن ذكر الحديث: (والحكمة هي العلم فإذا فقده المؤمن فهو بمنزلة من فقد ضالة نفيسة من نفائسه فإذا وجدها قر قلبه وفرحت نفسه بوجدانها كذلك المؤمن إذا وجد ضالة قلبه وروحه التي هو دائما في طلبها ونشدانها والتفتيش عليها، وهذا من أحسن الأمثلة، فإن قلب المؤمن يطلب العلم حيث وجده أعظم من طلب صاحب الضالة لها).

وفي مقابل ذلك نجد أزمة أخرى مقابلة لهذا الاتجاه تعطي الولاء كله للعقل وحده، وتدعي أنه بما أن الغرب قد تفوق في التقنية فلا شك أنه متفوق في الأفكار والأخلاق، فالأولون عصبوا أعينهم عن الحياة والناس والعصر برمته، فعاشور حالة فصام، عقولهم في العصور الماضية ،وحياتهم كلها هنا في هذا العصر، والآخرون عصبوا أعينهم  عن المنطلقات والأسس والقواعد والكليات التي قامت عليها حضارة الإسلام، وعزلوا ذواتهم عن أي جدل تاريخي، وعاشوا مجرد أتباع للآخر، ونحن في حاجة إلى روح نقدية وعقلية تمتلك قوة النظرة الفاحصة المتأملة على ضوء الدين ووفق ضوابطه، بلا جمود ولا تبعية.

إن خروج العقل المسلم من أزمته المعاصرة تجعل من الضرورة قراءة ومعرفة ما عند الآخرين كل الآخرين، وقبل ذلك  معرفة أحكام الدين وآدابه، والرفض المطلق للعلوم المعاصرة أو العلوم الإنسانية يعني عدم التعمق في دراسة تلك المدنيات وعدم فهمها، وإذا نحن لم نفهم المدنية الغربية جيدًا وهي السائدة في عالم اليوم خرجنا من إطار عصرنا وبذلك لن نجتهد الاجتهاد الصحيح المؤدي للإصلاح والتغيير الاجتماعي المطابق لظروف العصر ،إننا حينما نأخذ عن الغرب أو الشرق بمعيارية واضحة ونتجاوز مشاعر الرفض، لن نقف عند العلوم الطبيعية والتجريبية وما نتج عنها من تقنيات، بل نستطيع أن نأخذ وفي أيدينا معيار الحق  ما جاء في مجال العلوم الإنسانية أيضا، وبذلك فقط نستطيع معالجة الطرف المقابل الذي استخذى أمام الغرب تحت شعار الاستفادة وعدم الانعزال، وهذا التوسط  هو الموقف الصحيح بين الطرفين المتناقضين ،لأن كلا الموقفين فيه اعوجاج في التفكير، وخلط بين الثوابت والمتغيرات، وتقديس ما ليس بمقدس، ويدل على السطحية والعجز عن التأصيل والتمحيص، والميل إلى الارتجال، والانشغال بالدعاوى، ويشي بالخمول العقلي وغياب الموازين المحددة لما يقبل وما يرفض من نتاج الآخرين، ويدل على غياب المعايير الصحيحة التي تعرف بها أقدار الأشياء وقيمتها، ويؤكد الانحياز للذات بدون تعقل، والتمييز ضد الآخرين بلا تعقل أيضاً، وفي المقابل نجد المبالغة في إبراز مزايا الآخرين والانشغال بجلد  ذواتنا وتراثنا.

سادسًا:

علم البرمجة اللغوية العصبية أحد الأمثلة على ما ذكر آنفا ،فهناك من يقبله بحجة أنه مجرد مهارات وأدوات، وإنه يهتم بكيف ولا يهتم  بلماذا، وقد ثبتت جدواه، وظهرت فائدته، وهذا صنف في الغالب لم يدرس الجذور الفكرية لهذا العلم والأصول الفلسفية له والمنطلقات المعرفية التي انطلق منها، ولم يتأمل مضامين كتب البرمجة اللغوية وما ألف على ضوئها من أفكار ومضامين بعضها فاسد وبعضها ملتبس؛ لذلك لا يرى فيه إلا النفع والفائدة.

وهناك من رد هذا العلم بحجة أنه من نتاج أعداء الإسلام، وأنه لم يرد في النصوص الشرعية ما يدل عليه، وأنه ليس من هدي السلف، أو أنه شعوذة كما يعبر بعض المتعجلين، ومن تعمق قليلا من أصحاب هذا الاتجاه رأى بعض الجذور الفكرية وبعض العلل العملية لهذا العلم؛ فيمنع منه، ويقف ضده، وفي غالب الأحيان نجد من يحكم  برد هذا العلم و أشباهه من غير دراسة له ولا معرفة به، أو ربما درسه دراسة عجلى ومن منطلق المتصيد القناص، وهذا خطأ فادح رأيناه في بعض الأقوال التي وصفت هذا الفن وأهله بأوصاف غير حقيقية، مع أن القاعدة العلمية تقول (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فيجب علينا التوثق  والتوقف قليلا قبل إصدار قرارات التحريم والمنع المطلق، كما يجب أن نتوقف عن الاستيراد والاستعارة المطلقة لكل ما هنالك، ولا يتم ذلك إلا إذا امتلكنا العقلية المستنيرة بنور الوحي، والمجاهدة في أخذ الحكمة، والاستفادة من أي فائدة، وإعمال العقل، وتقبل النسبية فيما يقبل النسبية.

سابعا: قد يفهم بعض الناظرين في علم البرمجة اللغوية  أن الإنسان آلة مركبة ذات هندسة تشبه هندسة الماديات ،ويمكن إعادة برمجته بطرق ووسائل متنوعة، وهذا نوع  من التبسيط المخل والسذاجة المفرطة، تشبه سذاجة بعض الرقاة الذين يجهلون الأمراض النفسية والعصبية والعقلية، فيحيلون الأعراض والأدواء كلها إلى الجن والعين، ولذلك نجد من يدعي معالجة أمراض نفسية معقدة في جلسة أو جلستين، بل ومن يضع برنامجا لمدة 21 يوما للحصول على هدف يريده الإنسان، ويجعل ذلك من القانون الذي يجذب القدر حسب تعبيره.

ثامنًا:

سأذكر مثالاً واحدًا لما تتضمنه البرمجة اللغوية من التباس معرفي: فمن فرضيات البرمجة اللغوية قولهم (الخارطة ليست العالم) وهذه فرضية مجملة تحتوي حقا و باطلا، فأصلها الفلسفي قديم ويتضمن إنكار دلالات الحس على ما يدرك بالحس، أو التشكيك في ذلك، أو التشكيك في دلالة العقل على ما ثبت بالعقل، أو جحد دلالة الحس على ما لا يحيط به العقل أو الحس، والمعروف أن السوفسطائيين هم الذين أنكروا دلالات الحس، والصراع بين المذهب الحسي والعقلي صراع قديم من عهد اليونان.

تاسعًا:

ترتب على النقطة السابقة تهوين قيمة الحقيقة من خلال إشاعة مفهوم نسبية الحقيقة من شخص إلى آخر، وهذا مفهوم له مجاله الخاص ،وله جوانب الإيجابية، ولكنه يتحول إلى إشكال فكري وعملي عندما توزن به الحقائق الثابتة،المدركة حسا أو عقلا، أو التي جاء خبرها في الوحي المعصوم، وسمعت أحد المدربين يحاول دعم فرضية (نسبية الحقائق في ذاتها) بنظريات الفيزياء الحديثة، وفي ذلك من التكذيب بالمسلمات والإنكار للحسيات والعقليات ما يقود إلى العمى الفكري.

عاشرًا:

لا يوجد في هذا العلم ولا في أكثر ترجماته ما يشير إلى التوكل على الله، والاعتماد عليه والثقة به والالتجاء إليه، وإن كان بعض المترجمين  لهذا العلم قد جاءوا ببعض هذه المعاني ضمن كلامهم، وهذا الإغفال طبيعي في الفكر الغربي  المادي الذي يرى أن الكون والحياة والأحياء مكتفية بذاتها، ولكنه غريب جدا على المسلمين ،وبعيد كل البعد عن أسس إيمانهم وقواعد إسلامهم، فهاهو أحد المتعلقين بالبرمجة اللغوية يعلق لافتة يبرمج بها نفسه تقول (الحياة تعطيك أي شيء تطلبه منها)، ومن أعظم  دلالات فكرة الاستغناء عن الخالق في البرمجة اللغوية تضخيم دور الذات ،وتعظيم دور العقل الباطن، الذي يقرأ كتب “انتوني روبنس” و”جوزيف ميرفي” يدرك هذا الأمر بسهولة، على ما فيها من إشارات (روحانية وغيبية) فيها أيضًا مافيها من الأخلاط والمفاسد، علما بأن أحد مؤسسي العلم يهودي ملحد، ويسخر في تدريباته علنًا بالله تعالى والأنبياء عليهم السلام والأديان كما أخبرني أحد المتدربين عنده،.

وهل من آثار هذه النظرية ما ذهب إليه بعضهم حين سعى -بقصد حسن ونية طيبة – إلى  استنساخ ونشر مفهوم مبهم ملتبس حقه بباطله سماه “قانون الجذب”، وهو يحتاج إلى وقفات عقدية طويلة؛ لعلاقته بموضوع القضاء والقدر، ومن الطرائف أنني وجدت أحد المتأثرين بهذا المفهوم  كتب لوحة لنفسه قال فيها (الجذب هو : أن الإنسان يجذب الأشياء والأحداث عن طريق إرسال موجات من عقله الباطن الى البيئة التي حوله) .

الحادي عشر:

هل من تطبيع المفهوم (البرجماتي) التأكيد على أن أي أسلوب أو طريقة توصل إلى نتائج مرغوبة فهي من علم البرمجة اللغوية ويصلح استعماله؟ وما مدى تطابق بعض مفاهيم المرونة مع (البرجماتية)؟ وما علاقة ذلك بمعايير الحلال والحرام الشرعية؟ وماعلاقته أيضا بقضية المصلحة والمفسدة ومعاييرها وضوابطها؟ كل ذلك يحتاج إلى بحث ودراسة متأنية حكيمة بصيرة.

الثاني عشر: 

أما التنافس المالي الشديد فمن الأمور الظاهرة التي لا يستطيع أحد إنكارها وقد أدى إلى مشاحنات ،ظاهرها العلم والثقافة والنفع والفائدة ،وباطنها الريال والدولار، مؤكدًا في أرض الواقع ما أخبر به النبي ﷺ  في قوله: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي في المال».

وفي تقديري أن الثلب والتنقص الجاري على ألسنة المدارس المختلفة سببه الأكبر التنافس على السوق والزبائن مع أسباب ثقافية وعلمية وأخلاقية تأتي في الدرجة الثانية وربما العاشرة، وهذا مثال للقيمة الباهضة التي تقدم للخبراء النوويين عفوا مدربي nlp  فقد طلب من رئيس الاتحاد العالمي أن يأتي لعمل دورة تخريج مدربين في المملكة، فطلب على المتدرب الواحد  25000 خمسة وعشرون ألف ريال على ألا يقل عدد المتدربين عن 20 يتفرغون لمدة 21يومًا ،أي أنه سوف يحصد نصف مليون ريال، ومعنى ذلك أن قيمة الساعة لهذا المدرب العالمي 992 ريال للساعة حتى لو كان  في فراشه أو في الحمام، أي أن الدقيقة من وقته الثمين تساوي 16 ريال للدقيقة الواحدة، أظن أن هذه الإحصائية كافية في تصوير ما وصل إليه الحال، ولو طلب من بعض هؤلاء أن يدفعوا خمس ريالات لساعة  سوف يحاضر فيها عالم أو مفكر مسلم، لأبوا و تراجعوا واستنكروا و استنفروا، ودورة رئيس الاتحاد هذه مناسبة جميلة لمواكبة  لدعوات إخواننا في فلسطين وغيرهم لمقاطعة البضائع والشركات الأمريكية، والتضامن مع الإستشهادين الذين لا عيب فيهم سوى أنهم لم يدرسوا البرمجة اللغوية! ومن العجائب أن من المغرمين بهذه الدورات من يمنع شراء مشروب أمريكي بريال أو ريالين،ويدفع 16 ريالا لكل دقيقة يمضيها المدرب الأمريكي  حتى ولو كان في نائما! وما أشبه هذا الفعل بفعل أهل العراق الذين استفتوا ابن عباس في دم البعوض أو بما جاء في كتب الأدباء، من طرائف المفارقات، ومنها قول الشاعر:

ولي جار  يصلي من قعود             وينكح حين ينكح من قيام

وقول أبي العيناء: (رأيت جارية مع النخاس وهي تحلف أن لا ترجع لمولاها فسألتها عن ذلك فقالت يا سيدي إنه يواقع   من قيام  ويصلي من  قعود ويشتمني بإعراب ويلحن في القرآن ويصوم الخميس والأثنين ويفطر رمضان ويصلى الضحي ويترك الفرض فقلت لا أكثر الله في المسلمين مثله).

وفي الختام:

أقول للمتلهفين على شهادات هؤلاء: من يتقاسم العسل مع الدب فإن له أصغر حصة، وفي المثل:  (الحقيقة قوية ولكن المال أقوى منها)، ونخشى أن القضية ليست قضية كفاءة بقدر ما هي قضية وفرة، فلو كنا في بلد فقير لما نوقشت هذه القضية ،ولما جاء إلينا أحد من بريطانيا أو أمريكا أو كندا ليعلمنا البرمجة اللغوية، وفي العموم الأرباح غير العادلة تشبه العملة المزيفة ،كلما زادت زاد خطرها، ولو جرى ذلك على يد مدربين محليين، أو عرب.

هذه تساؤلات لا أعني بها سوى الوصول إلى الحقيقة، وإن كانت جارحة، ولا أقصد من ورائها سوى وسطية الإسلام العظيم من غير تحجر ولا ذوبان، والله المستعان. 

الكاتب: د. سعيد بن ناصر الغامدي  

الأرشيف

حقيقة المشي على الجمر
تحليل لممارسة: المشي على الجمر المتقد
القائمة