“وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني” (٥)

المشاهدات : 1,037

تعرّفنا في المقالات السابقة على جوانب من الشرور التي قد تتفشى في مجتمعاتنا المسلمة دون أن ينتبه لها كثيرون، بل قد يتقبّلونها ويمارسونها لأن الشيطان قد زيّن ظاهرها بالنفع ولبّس باطلها بالحق. 

قدوتنا في هذا النهج الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، الذي كان يقول: ”كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني“.

ثم نتقصّى إجابة السؤال، وتوضيح حقيقة الشر لتكون النتيجة التعوّذ منه والتحرّز منه، فلا يدركنا.

في الحلقات السابقة أجبنا عن مجموعة من الأسئلة تدور حول “أسس الديانة الطاوية”، وحقيقة جهاز الطاقة في الإنسان الذي يدعي وجوده (الطاويون) ومن تبعهم، وحقيقة الجسم الأثيري الذي يزعمون وجوده، ثم أعطينا فكرة موجزة عن التطبيقات المتعلقة بإثبات الجسم الأثيري، والشكرات، والطاقة. وطرق دخولها إلى بلاد المسلمين.

وعلمنا من خلال إجابات الأسئلة السابقة أن الديانة الطاوية والفلسفات التي تعتمدها كانت نتاج عقول رفضت أنكرت النبوات ورفضت عقيدة الألوهية، ورفضت عالم الغيب الصحيح بكل توابعه، وتوصلت -بالعقول القاصرة- إلى فلسفة خاصة للوجود تعتمد على الثنائيات المنبثقة عن الكل الواحد وما يتبع ذلك من ادعاء وجود الأثير والأجسام السبعة، وجهاز الطاقة المختص باستمداد “قوة طاقة الحياة” للوصول إلى الصحة والسمو والنرفانا!! 

وفي هذه الحلقة سنجيب عن سؤال: ما المقصود بـ”السمو” والـ”نرفانا”، التي يعد مروجو هذه الفلسفات المتدربين بالحصول عليها والوصول إليها؟

تسعى هذه التطبيقات المعتمدة على فلسفة الطاقة في كثير من تمارينها لتدريب الناس على ما يسمى بالاسترخاء أوالتنويم للراحة، والاستشفاء، والوقاية من الأمراض بمختلف صورها. كما تستخدم التنويم كأسلوب علاجي للمرضى، أو وقائي للأصحاء بهدف الوصول لمرحلة “النرفانا”.

والنرفانا هي المرحلة التي يحدث فيها خروج عن سيطرة العقل الواعي، ويمكن أن يصل لها الشخص بإرادته عن طريق الانهماك والتركيز في رياضات روحية، مثل: “التأمل الارتقائي”، “التنفس العميق التحولي”، “المانترا”، والمجاهدات الشديدة في الجوع والسهر وقتل شهوات النفس وغير ذلك. وعندها يصل الشخص إلى مرحلة النرفانا التي تؤهله لإمكانية الاتحاد “التناغم” مع الكلي “الطاو” فيصبح متصفاً بصفات لا تكون إلا ” للآلهة”، ويسمى عند البوذيين الإنسان المتنور”بوذا”. 
فالنرفانا هي غاية ما يريده البوذي والهندوسي -ومن على مثل معتقدهم من الأديان والمذاهب- من تأملاته ”عباداته“ ورياضاته لأنها تجعله معافى من الأمراض كما تنجيه من جولان الروح “التناسخ” الذي يكون لمن لا يصلون للتناغم الكلي في رياضاتهم.

وتسمى مرحلة ” السمو” عند مفكري “الماكروبيوتيك “حسب مستويات حالات الإنسان التي وضعها أحد أبرز شخصيات هذا الفكر الياباني، “جورج أوشاوا”. وهي المرحلة المسماة مرحلة “النشوة ” Trance أو “الغشية ” عند ممارسي التنويم في التطبيقات المختلفة، وفيها يتم التعامل مع العقل اللاواعي. وهي المرحلة المسماة مرحلة “الخلاء ” Emptiness عند ممارسي “التشي كونغ”. وقد اقتبسها بعض المسلمين “المتصوفة ” الذين تأثروا بأديان الشرق، وظنوا جهلاً منهم أنها حكمة ضلت عن السابقين الأولين -رضي الله عنهم-، فأسرعوا يتعلمونها ويطبقونها من خلال تأملات غير تأملات أولئك الكافرين وبأذكار متكررة مشابهة للترانيم “المانترا” التي تسهل الوصول للمراد. وقد أسمو هذه المرحلة: مرحلة ”الفناء“ أو ” السكر” أو “الوجد” على درجات متفاوتة. هي التي ثبت على كثير منهم وقت وصوله لها شطحات قولية وفعلية أوصلت بعضهم للكفر والقول بالاتحاد والحلول. 

يقول بعض معلمي هذه العلوم والمدربين على الاسترخاء والنرفانا -أصلحهم الله-: “هي التي يستشعرها المؤمن في قيامه الليل أو في متعة سجوده أو في تكرار الذكر” !؟.

والحق خلاف ذلك؛ فالمؤمن يشعر بأثر عبادته في نشاط جسمه وحيويته، كما يشعر بالأنس، وقد يجد حلاوة الإيمان ولذة المناجاة إلا أنه لا يغيب عن وعيه، ولا يقصد هذا الأثر بعبادته. وإن وصل بعبادته “قراءة القرآن، الذكر المشروع” إلى الغياب عن الوعي استغراقاً في المحبة أو الخوف؛ فليس حاله هذا هو الحال الأكمل، إذ ليس حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته -رضوان الله عليهم-، وإنما هو حال اعترى بعض التابعين وتابعيهم لغلبة خوف أو محبة، وهو شأن كثير من أهل التصوف لتأثر عباداتهم ورياضاتهم وخلواتهم بطقوس الهندوسية وفلسفاتها. 

 

أما بالنسبة لما جاء في قصة عروة بن الزبير -رضي الله عنهما -ونحوها من الاستغراق في الذكر أو الصلاة بحيث يضعف الشعور بأي شيء حوله، فليس من قبيل “النرفانا” والغياب عن الوعي في شيء، وإنما هو استحضار لمعاني إيمانية عظيمة، وتأمل للآيات أو التسبيحات بحيث لا يعود غيره يشغل الهمّ والفكر، وهو أمر مطّرد في كل ما يمكن أن يستحوذ على الهم فيضعف الشعور بسواه، وليس غياباً عن الوعي.

المؤمن طالب استقامة لا طالب كرامة، وعلينا أن نتذكر دائماً أن غاية وجودنا مبيّن في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فكل ما علينا هو التزام عبادته وتتبع أمره والوقوف عند نهيه.. وقد نجد لعبادتنا لذة وقد نستمر نجاهد أنفسنا عليها ونأطرها على التزام الشرع، حتى نلقى الله ونحن مستقيمون وإن لم يكرمنا باستشعار لذائذ الروح، فقد أكرمنا بالاستقامة على الأمر والنهي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبته: د. فوز كردي.

سلسلة مقالة: “وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني” (٥) من (٥) 

 

الأرشيف

“وأسأله عن السر مخافة أن يدركني” (٤)
وقفةٌ مع الدورات التدريبية
القائمة